حادث عادي وخبر مكرر ..بصراحة لا يستحق الوقت الذي ستنفقونه في قراءة هذا المقال ..يقولون أن الخبر الصحفي الذي يستحق النشر هو أن يعض الرجل كلبا وليس العكس..ولكن ماذا لو تكرر عض الرجال للكلاب ؟ ماذا لو تحولت الأعجوبة إلى حدث مألوف مكرر لا يثير اهتماما ؟. الخبر أن جريمة قتل حدثت في مدينة طنطا ( الهادئة سابقا والبائسة حاليا )..والقتيل شاب جامعي في العشرين من عمره أهدرت دماؤه الزكية علنا في طريق رئيسي مزدحم .. والقاتل – كما يقال - بلطجي استأجره شاب في الثامنة عشر من عمره ..والمأساة جرت بطريقة أفلام الأكشن الأمريكية .. قاد الفتى الدراجة النارية وأردف خلفه البلطجي الذي ما أن شاهد غريمه حتى عاجله بالطعن ثم فر هاربا . مفروض آن تقوم القيامة لهذا الخبر الكئيب المحزن المفعم بالدلالات ..ولكن هذا لن يحدث لأن القتل - لأوهى الأسباب- صار حدثا يوميا..لم يعد عض الرجل للكلب خبرا مثيرا الآن. هذه الجريمة بالذات عاطفية كما يقال..الولد مراهق في الثامنة عشر ابن مليونير مشهور وكل طلباته مجابه ..لكن الجميلة تعلق قلبها بشاب آخر يكبره بعامين ..المراهق المدلل لم يطق فكرة الهزيمة .. تفضل شابا آخر عليه ؟ يا للهول ..فلتنطبق السماء على الأرض . وبالفعل انطبقت السماء على الأرض وعلى رأس المسكين أيضا..مناوشات غرامية فاشلة من روميو الخائب. تحذير تلو تحذير ..دعك من هذه الفتاة ..إنها في حكم خطيبتي ..ثم أنها لا تريدك يا أخي ..خلي عندك دم ..ابتعد وإلا ضربتك . ثم علقة ساخنة من النوع المهين نالها أبن المليونير . حسنا ..يبدو أنك لا تعرف أنا مين وابن مين ؟ ..عموما الدرس قادم وستفهمه جيدا .. وبينما كانت الدراجة النارية تبتعد..والفتى يسقط مضرجا في دمائه الزكية لينقل إلى مستشفى خاص - في محاولة فاشلة لإنقاذه - لا أحد يعلم هل فهم الدرس أم لا ؟ أغلب الظن أنه حتى اللحظة الأخيرة لم يفهم لأنه كان في صدمة عصبية من جراء النزف . .......................... حادثة من هذا النوع لا غرابة فيها قياسا على ما يحدث كل ليلة في شوارع حينا الذي تم احتلاله بجحافل من المراهقين الذين يملكون سيارات تتصاعد منها الموسيقى الصاخبة مع الكثير من السباب والمشاجرات الساخنة .. كل ليلة – وحتى الرابعة صباحا – تتكرر المأساة ..النوم غير ممكن والراحة إذا لم نظفر بها في بيوتنا فأين ومتى ؟ .. عاجزا عن النوم بعد عمل يوم منهك أتقلب على الجنبين واضعا الوسادة على أذني عالما أنها لن تحجب هذه الضحكات الوقحة المتصاعدة من الطريق تحت غرفة نومي بالذات.. تفور الدماء في عروقي وارتدي ملابسي على عجل لأوبخ هؤلاء الوقحين الذين يتضاحكون كما في غرزة في الثالثة صباحا متوهما بسذاجتي أن وقاري وملامحي المتعبة وغضبي الشريف سيجعلهم يذوبون خجلا .. حينما كنت في عمرهم لم أكن أجرؤ على التغيب عن منزلي بعد الحادية عشر مساء لأني كنت أعرف أن لدي أبا طويلا قادرا كما يرسمونه في مجلات الأطفال الملونة. . أصلع الرأس مفعما بالحزم والحكمة ..نظرة منه كفيلة أن توقف كل متجرئ وقح. .أبا أهابه حد الموت وأتصور الذبح ولا أتصور أن يشكوني أحد إليه لأن هيبته تملأ قلبي . أنزل للطريق وكلي ثقة أني سألقنهم درسا مؤلما في ضرورة احترام خصوصية الآخرين.. ولكن حينما يرتفع صوتي غاضبا أكتشف أني أنظر إلى وجوه غير مبالية إلى حد الغيبوبة ..وعيون غير مكترثة إلى حد الإهانة وابتسامات شبه هازئة إلى حد الذبح. يقول أحدهم بوقاحة وهو يغرس عينيه في عيني أن الوقوف بالطريق من حقهم..سيفعلون ذلك الليلة وكل ليلة..وحينما أهددهم باستدعاء الشرطة يضحكون بقوة ..يضحكون من قلوبهم ..ضحكة تعرف منها أنهم صادقون – لسبب أجهله – في سخريتهم من هذا التهديد ..وحينما أبدأ في كتابة أرقام السيارات يتطوع أحدهم بالإفصاح عن اسمه . مصطفى عاطف بك بدير ، يقولها في تعال وكبرياء ولهجة ممطوطة ممدودة مستخفة..هذا الفتى الذي هو في عمر ابني . وتتعالى ضحكاتهم حتى أجدني محاصرا بها فأهرع للمنزل مستنجدا بالشرطة..يأتي ذلك الصوت الخامل القادم من أعماق اللا جدوى .أصر على مهاتفة الضابط لأنني مررت بهذا الموقف عشرات المرات وأعرف أنهم سيتجاهلون شكواي ويعتبرونها نوعا من الرفاهية الزائدة..وحتى لو أرسلوا سيارة النجدة فإنهم يطلبون منهم الذهاب في ود فيمانعون ويتمازحون كأصدقاء قدامى. هذه المرة صممت على الحديث مباشرة مع الظابط الذي أخبرني أننا في مصر ولذلك فلا يجب علي أن أتوقع الكثير.. ثم أن وقوفهم بالطريق في الثالثة صباحا ليس مجرما .. وأنه شخصيا عمل في مكافحة المخدرات وكان يقبض على المتلبسين ثم يفرج القاضي عنهم قائلا أنه لم يقتنع بدليل الإدانة ( هذا ما أكده لي ) والحل ؟ تقولها وأنت تحترق من الغيظ ..يقول في أريحية نادرة : حاضر يا دكتور من أجل عينيك ( على رأي أم كلثوم ) سنرسل سيارة نجدة الآن ؟ وماذا عن الأيام القادمة ؟ ..هكذا تتساءل يائسا عالما أنه لا حل هناك . ................... والحق أنني لم ابتعد بهذه الحكاية عن المأساة خطوة واحدة .. ضاع دم الفتى هدرا كما ضاع مستقبل المراهق الآخر .والأسباب الحقيقية أنهم لم يكن لديهم آباء مجلات الأطفال الملونة ، ولأن الشرطة لا تجد مشكلة في مشاجراتهم المتكررة وتعاطيهم البانجو ..التجمهر في الشارع حتى الثالثة صباحا كل ليلة ليس عملا مجرما ..هكذا يقول الضابط ويجب علي أن أصدقه. أما العمل المجرم- بحق -فهو معارضة النظام ..ميدان التحرير تحول في الأول من مايو إلى ما يشبه ثكنة عسكرية ..صفوف مكدسة من جنود الأمن المركزي بملابسهم السوداء المخيفة على هيئة دوائر متداخلة مرعبة ..وحيثما نظرت حولي وجدت السيارات الضخمة التي تشبه التوابيت المتحركة في كل مكان هنا وهناك ..أصابني الرعب والارتباك وسألت عما يحدث فقالوا : مظاهرات .. شخصيا لم أشاهد أي مظاهرة ..وحتى لو كان هناك مظاهرات فهذا الحشد لا يمت للبوليس ولا للحياة المدنية بصلة ..إنه حشد عسكري .. جيش يستعد للبطش بجيش آخر .. أشهد أن أحدا لم يتعرض لي بسوء ، وكان الصمت المهيب يغمر المكان ..لكن الرسالة وصلت الكل ..هذا النظام قوي وقادر على البطش بخصومه بطرف أصبعه . وقتها لم أستطع منع نفسي من التساؤل : ما داموا يملكون كل هذه القوة الباطشة فلماذا لا تسير هذه التوابيت المتحركة في طرقاتنا بهدف حفظ الأمن – وليس النظام –؟ .. وقتها سأضمن لك أن كل الشباب سيلزمون بيوتهم في التاسعة مساء ولن تنشب بينهم مشاجرات دامية يفقد على أثرها شباب في مقتبل العمر منحة الحياة التي لا تعوض . ........................ من قلبي أقدم عزائي لأسرة القتيل وأسفي على الدماء الزكية التي سالت وستظل تسيل حتى يعود عصر الآباء الحقيقيين اللذين لا يسمحون بتأخر أبنائهم المراهقين حتى الرابعة صباحا ، وتعود الشرطة لممارسة دورها الحقيقي الذي أنشئت من أجله ..وقتها فقط يصير خبر الرجل الذي عض الكلب خبرا يستحق آن ينشر ونندهش له. وحتى ذلك الوقت أقول مات مراهق على يد مراهق .. لا شيء يذكر ..لا شيء يستدعي انتباهكم أيها السادة ..كل ما هنالك أنه قد عض الرجل كلبا. [email protected]