في روايته "ميرامار" التي دارت أحداثها في مدينة الإسكندرية بذلك البانسيون الذي يحمل نفس اسم الرواية، يدور بين حسني علام أحد أعيان طنطا الذي لم تستطع ثورة يوليو أن تصفي أملاكه، وسرحان البحيري الذي يعمل وكيلا للحسابات ويراه الجميع منتفعا من الثورة، يدور بينهما هذا الحوار "نحن مؤمنون بالثورة ولكن لم يكن ما سبقها فراغا كله، فقال بعناد مثير –بل كان فراغا!-. كان الكورنيش موجودا قبلها كذلك جامعة الإسكندرية، لم يكن الكورنيش للشعب ولا الجامعة." هو إذن الصراع الأزلي بين الثورة ومؤيديها والذي جسده أيقونة الرواية العربية نجيب محفوظ، والذي نحتفل هذه الأيام بعيد ميلاده المائة. نجيب محفوظ الذي صار شخصية أدبية جدلية يثار حوله غبار المعارك بين حين وآخر، فحين أصدر روايته "أولاد حارتنا" اتهم بالكفر والزندقة، وحين حصل على جائزة نوبل للأدب قيل أنه منح هذه الجائزة لموقفه من التطبيع، وبالرغم من قسوة الاتهامات التي وجهها البعض لنجيب محفوظ – يقول الدكتور سليمان العسكري رئيس تحرير مجلة العربي الكويتية- خاصة في قضية العروبة "فقد كان الرجل من أعمق العروبيين انتماء، ربما لم يستطع مجاراته كثيرون من أصحاب الاتهام الذين كانوا مرتفعي الأصوات إلى حد الضوضاء وهي ضوضاء رد عليها صاحب القلب الوديع –بل القلب الوديع نفسه- كما يقول الراحل رجاء النقاش. نجيب محفوظ الذي لطالما أحدثت رواياته صدى واسعا في شتى بقاع الأرض، وحولت العديد منها إلى أفلام ومسلسلات لازال الجميع يتذكرها، ولكن الفترة الجديدة التي تمر بنا الآن عقب ثورة الخامس والعشرين من يناير تفرض علينا أن ننظر إلى دراما نجيب محفوظ الروائية من زاوية جديدة، وهي الزاوية الثورية لرواياته ومحاولة إسقاطها على الواقع الذي نرصده في هذه الأيام، فإن كان محفوظ لم يكن أديبا تحريضيا إلا أن رواياته حملت في وقائعها ما يمكن رؤيته يتحقق هذه الأيام، فها هي رواية "ميرامار" التي تأتي فيها زهرة لتعمل خادمة في البانسيون الواقع بالمدينة لتكون محور الربط بين أبطال القصة ورغم تعرضها للعديد من المطبات بعدما تلاعب بها الميكيافيللي وتهجم عليها الشهواني ولكنها دافعت عن نفسها، كما أنها ظلت صامدة قبل أن تأتي إلى البانسيون ورفضت الزواج من ذلك العجوز رغما عنها لتمثل نموذج الوطن، الذي يظل صامدا رغم الصراعات التي تدور على أرضه. "عيسى الدباغ" بطل رواية "السمان والخريف" لنجيب محفوظ قد يمثل في واقعنا الذي نعيشه حاليا أحد النماذج لفلول النظام البائد، بعد أن كان موظفا بدرجة لا بأس بها وكان أقرب للترشح لوكالة الوزارة، ولكنه يتلقى صفعة بنقله إلى وظيفة بدرجة أقل، ثم يتعرض للتقاعد المبكر بعد أن جاءت ثورة يوليو 1952، وهو ما يصيبه بصدمة يصل بها إلى درجة التوهان في الأرض، ما بين تعلقه بالماضي ونظرته إلى المستقبل، كما يرى أقرانه ممن تتغير مواقفهم لينافقوا الثورة وهو ما يمثل نموذجا حقيقيا لما نراه ممن يطلق عليهم "الفلول" هذه الأيام. تأتي محاكمة الرئيس المخلوع هذه الأيام وكأنها تكتب فصلا جديدا في رواية "أمام العرش" والتي كتبها نجيب محفوظ بعد عامين من إغتيال الرئيس السابق أنور السادات ونظم من خلالها محاكة لجميع الروؤساء على مدار العصور، في إشارة قد تبدو وكأنها تقول أن التاريخ يعيد نفسه، ونشهد من خلالها مهاجمة سعد زغلول لجمال عبد الناصر بعد أن اتهمه الأخير بأنه ركب الموجة الثورية في ثورة 1919، كما نرى دفاع جمال عبد الناصر عن نفسه أمام مصطفى النحاس بأن إدارته للبلاد على هذا الشكل لأنه كان يستلزم فترة إنتقالية وهو ما يرد عليه النحاس بأنها حجة دكتاتورية واهية، كما اتفق محفوظ مع السادات في موقفه من السلام مع دولة الكيان الصهيوني بسبب اقتناع محفوظ بأن التفاوض هو الحل. الأديب الراحل وإن كثرت رواياته وحملت في جوفها العديد من الإسقاطات المباشرة في بعض الأحيان والرمزية في الأحيان الأخرى قد تدون مؤلفات كثيرة للحديث عن شخصية "الديكتاتور" التي تجسدت في الثلاثية، وتوصيفه للفرعون حينما كانوا جميعا في "ثرثرة فوق النيل" ويبدو وكأن القمع الأمني كان متواجدا على مر العصور لنرى بأعيننا نظاما من تعامل جهاز أمن الدولة في "الكرنك"، وسيطرة السلطة الحاكمة على نظام السوق بمعاونة التجار المنتفعين في "الفتوة".