شهادة الزور من أكبر الكبائر في الإسلام، إذ يترتب عليها عواقب وخيمة ونتائج دائما لا تحمد عقباها، من ضياع للحقوق، إلى ترسيخ للعداوات والتناحر بين أفراد المجتمع الواحد، وتصل إلى القضاء على الحياة نفسها إن تسبب شاهد الزور في إدانة متهم بالقتل مثلا ولم يكن هو الذي فعلها، هذا على مستوى الأفراد، أما على مستوى الأمم والدول؛ فشهادة الزور تُمارس في صور متنوعة وتختلف عن ممارستها على مستوى الأفراد، وما دفعني للكتابة عنها هو انتشارها في مجتمعنا على كل مستويات التعامل، مما يشكل نذيرا للخطر الداهم والمصير الأسود. ولنتناول بضعة أمثلة على شهادة الزور التي قد يمارسها أفراد المجتمع بصورة يومية من حيث لا يدرون، أو من حيث يدرون فتكون المصيبة أعظم: عندما تخرج من الكنترول نتيجة الامتحانات في إحدى كليات الجامعة؛ كلية الطب مثلا؛ مخيبة لآمال عشرات ومئات الطلاب النابهين، ومحققة لتوقعات القلة القليلة من أبناء الأساتذة وأولي الوسايط وحقول الكوسة، فقط لأنهم كانت لديهم الواسطة المناسبة في امتحانات الشفهي والإكلينيكي، فحصلوا على الدرجات النهائية في كل اللجان، بعد أن يُسأل الطالب منهم أسئلة صعبة من نوع: إنما إزي بابا ؟ أو سلم لنا على ماما، وانت ولد ممتاز.. وهكذا.. ليعين في السنة التالية طبيبا مقيما في المستشفى، ومع تتابع الامتحانات والسنوات تستشري شهادة الزور، فهذا الطالب قد يستحق الدرجة النهائية وقد لا يستحقها، فإن كان لا يستحقها؛ فقد بُني حصوله عليها على ضياع حقوق الطلاب الآخرين من المستحقين، ولكنهم لا واسطة لديهم من الأساتذة أو ذوي السلطة، وكانت النتيجة تدهور مستوى الحياة الجامعية والأكاديمية لضعف مستوى المعيَّنين بشهادة الزور من هيئة التدريس. نظام الانتخابات في بلادنا يعتمد في جزء كبير منه على شهادة الزور، فالناخبون يختارون مرشحيهم بناء على القبلية والاستقطاب، وقد يبيعون أصواتهم لمن يدفع أكثر، ولا ينتخبون من يمثلهم في المجالس النيابية بناء على كفاءته التشريعية أو ولائه للوطن، وإنما يبنون اختيارهم له على مقدار ما قد يقدمه لهم من خدمات شخصية محدودة التأثير، كتعيين أبنائهم أو إلحاقهم بكلية الشرطة أو معهد أمناء الشرطة، أو تقديم تسهيلات في المحليات، أو استخراج قرارات علاج على نفقة الدولة لهم أو لذويهم، المهم أن معيار الاختيار ليس الحرص على مصلحة البلاد والعباد، وهذا ما يجعل الانتخاب بهذه الطريقة شهادة زور، فنسبة ليست قليلة من هؤلاء المنتخَبين في البرلمان يقترفون من الآثام، ويرتكبون من الجرائم المالية والأخلاقية وجرائم الإفساد السياسي والاجتماعي ما يدخلهم في زمرة المجرمين وذوي السوابق، ويعوَّل الأمر كله في منتهاه إلى من اختارهم أصلا ليتبوءوا هذا المنصب التشريعي الرفيع، فكانت شهادته في الانتخابات شهادة زور، ترتب عليها الخراب كله وانهيار المجتمع بأكمله بانهيار مؤسساته التشريعية. التعيين في أي من الوظائف ذات المرتبات العالية، والمميزات الرائعة لمن يتولاها، لا يكون إلا لأهل الحظوة والتفوق في الواسطة والعلاقات الأسرية والنفعية، فعندما يعلن عن هذه الوظائف الشاغرة؛ ويتقدم المؤهلون بشهاداتهم لنيل الوظيفة؛ دائما ما يقع الاختيار على من لديه الواسطة المناسبة، أو يترتب على تعيينه حصول من يفضله على مصلحة مباشرة، وما يفعله المعيِّنون والمعيَّنون ليس إلا شهادة زور، فكلاهما شهد أن الموظف الجديد هو أفضل المتقدمين، بينما هو ليس كذلك، وترتب على هذا الاختيار تضييع حقوق الآخرين، ولن يقدم المعيَّن بالواسطة ما قد يقدمه من يصلح لها فعلا. ومن نماذج شهادة الزور التي برزت على الساحة بعد الثورة المبروكة، ما فعله من سماهم مجتمع الثورة بالمتحولين أو المتلونين، وهم المشاهير من الفنانين والشخصيات العامة والإعلاميين، الذين كانت جميع برامجهم وأقوالهم وآرائهم ومشاركاتهم ضد الثورة ومع الرئيس السابق، ثم ما إن نجحت الثورة في خلع الرئيس ونظامه؛ تبدلت الآراء، واختلفت الوجوه، وانقلب التأييد إلى معارضة، وبغض النظر عن موقف الناس من هؤلاء المتحولين؛ فموقفهم هذا ليس إلا شهادة زور، أدلوا بها كل من أجل مصلحته، بينما كان المطلوب منهم أن يقفوا مع جماهير الشعب الذين صعّدوا نجومهم وأوصلوهم لما هم فيه، لا أن يسبوا الثائرين ويسفهوا أحلامهم بالخلاص من الطاغية. قضية الساعة: محاكمة الرئيس العسكري السابق أمام محكمة مدنية، من المؤكد أن كل متهم بارتكاب جريمة؛ أي جريمة؛ يحاول بشتى الطرق الدفاع عن نفسه ليبعد عنها احتمال العقاب، ومن الطرق المعروفة لدى المحامين والقانونيين استخدام شهود الزور الذين قد يكون دورهم كبيرا ومؤثرا، بحيث قد يغير مجرى القضية، وما حدث أثناء خروج المتهمين من قاعة المحكمة منذ أسابيع يوحي لمن يشاهده بأن القضية تغيم ملامحها بشهود الزور، فالضباط الذين يحيون الوزير السابق الذي أتي به من محبسه، ويسلمون عليه ويبادلونه الابتسام والتحية هم شهود زور، والضباط الذين ظهروا على الشاشات يحيون ابن الرئيس المخلوع ويخلون له الطريق إلى سيارة الشرطة مبتسمين له هم شهود زور، ويُشهدون من يشاهدهم أنهم يحترمون المتهمين بأبشع تهمة؛ القتل العمد، وهم بذلك يقضون على شعور الناس بحيادية الإجراءات المتخذة ضد المتهمين بالقتل، لمجرد أنهم كانوا يحكمون هذا البلد، والرئيس السابق المتهم يأتي إلى مقر المحكمة في طائرة هليكوبتر، وينتقل منها إلى القاعة في سيارة مكيفة. كل هذا وكثير غيره من مظاهر شهادة الزور التي استشرت في مصر حتى أصبحت من أساسيات التعامل على كل المستويات، وبخاصة عبر العقود الثلاثة الماضية، وهي تحتاج منا ثورة أخرى؛ هذه المرّة على أنفسنا وإلا فلن تفلح معنا محاولات التغيير.. وقى الله بلادنا شر شهادة الزور.. واسلمي يا مصر