ذات ليلة.. في تمام الساعة الرابعة فجراً.. انتهي النحات الفرنسي العظيم «رودان» من تحفته الفنية الجديدة.. تمثال الأديب الفرنسي الفذ «بلزاك».. حيث نَحَتَهُ «رودان» واقفاً وهو يرتدي عباءة سوداء طويلة بأكمام واسعة تخرج منها يداه التي تشير إلي الأمام.. لم يطق «رودان» صبراً حتي الصباح.. كان كفنان يحتاج إلي أن يري أحد تحفته الجديدة ويخبره رأيه.. لهذا.. هرع إلي أحد تلاميذه المقيمين معه في الاستوديو الخاص به لمساعدته.. أيقظه من النوم بسرعة فاستيقظ التلميذ وهو يفرك في عينيه.. واتجه مع أستاذه إلي صالة العمل بالاستوديو وهو لايزال مغشلقاً وعينيه مِقَفلَة.. وبمجرد مروقهما من باب صالة العمل.. بُهِتَ التلميذ.. وتوقف عن فرك عينيه.. وذهبت الغشلقة وحل محلها الفَوَقان.. اتجه التلميذ إلي حيث يوجد التمثال في منتصف الصالة مأخوذاً ومبهوتاً بروعته وكماله ودقة نحت أستاذه.. توقف التلميذ بين يدي التمثال البارزة من أكمام العباءة وهو يدقق فيهما النظر وبدون أن يستطيع إزاحة عينيه عنهما نطق أخيراً.. «يا نهار أسود.. أنا شفت تماثيل كتير وقليل.. بس ما شفتش إيد منحوتة بالروعة دي قبل كده».. توتر «رودان» وأظلم وجهه من تعقيب تلميذه.. وهرع لإيقاظ تلميذ آخر.. وكما حدث مع زميله بالظبط حدث معه.. سار التلميذ مع أستاذه مغشلقاً وقافشاً وعمال يفرك في عينيه.. وبمجرد رؤيته للتمثال.. أفاق التلميذ وذهبت الغشلقة وتوقف الفرك..واتجه التلميذ كالمسحور إلي يدي التمثال الخارجة من العباءة..لمسهما وهو غير مصدق لما يراه أمامه.. «أستاذي رودان..ربنا وحده اللي يعلم إنت ازاي نحت الإيد بكل الصدق والفن ده.. أنا حاسس إنهم حيتحركوا من كتر ما همة حقيقيين».. زاد توتر «رودان».. وبدأ التوتر يتحول إلي غضب.. خاصة بعد تعقيب التلميذ الثالث الذي ذهب لإيقاظه.. «أنت لو ما نحتش حاجة تانية في حياتك.. الإيد دي كفاية عليك».. كان مزيج التوتر والغضب قد أضيف إليه الإحباط.. ذلك الإحباط الذي عززته انحناءة التلميذ الرابع أمام أستاذه مُعَقِّباً.. «مبروك عليك يا أستاذي.. إنت بنحتك للإيد دي ضمنت الخلود..حتي لو ماعملتش تماثيل تانية في حياتك».. وهكذا.. استيقظ باقي التلاميذ في الصباح.. وانهالت آراؤهم وتعقيباتهم وانبهارهم بمدي عبقرية نحت أستاذهم لتلك الأيدي التي تكاد تتحرك من فرط الصدق والفن والحقيقة.. ولم يعقب تلميذاً واحداً منهم تعقيباً عاماً علي التمثال ككل.. التعقيبات كانت علي الأيدي فقط.. وفجأة..وبينما التلاميذ يحيطون بالتمثال ويتأملون في يديه.. اندفع أستاذهم «رودان» كالبركان الغاضب تجاه أحد أركان الاستوديو، حيث توجد بلطة ثقيلة ملقاة علي الأرض.. التقطها بعنف وغضب..واندفع بها تجاه التمثال.. حاول التلاميذ منعه وهم لا يفهمون ماذا يحدث.. ولكن «رودان» كان مأخوذاً بثورة غضبه العارم وجنونه الجارف.. لهذا ابتعد التلاميذ عن طريقه.. بينما اندفع هو تجاه تحفته الفنية..وبضربة واحدة من البلطة الثقيلة فصل أيدي التمثال عنه وسط ذهول ودهشة وصمت تلاميذه.. وقف «رودان» أمامهم محبطاً.. تتدلي البلطة من يده بينما تقبع تحت أقدامه أيدي التمثال المقطوعة والتي أثارت إعجاب وانبهار تلاميذه.. وبينما الصمت يسود الاستوديو.. كان صوت «رودان» واضحاً وحاسماً وهو يؤكد لتلاميذه.. «واضح إن الإيد مالهاش علاقة بباقي التمثال.. الإيد والتمثال مابينتموش لكيان واحد.. عشان كده.. كان لازم أقطعها»! هكذا..تقرر استئصال وقطع كل ما من شأنه إفساد المنظر العام في البلد..وتشويه المنظومة التي تسير مصر وفقاً لها في تلك الفترة الزمنية الانتقالية التي نحياها الآن.. وأصبح لزاماً علي الموهوبين بجد والملسوعين بما يحبونه فعلاً أن يبتعدوا عن الصورة العامة حرصاً علي عدم تشويهها..وزير مخلص في عمله أو رجل سياسة حريص فعلاً علي مصلحة البسطاء والعامة سوف يفسد حالة الحراك السياسي التي ينبغي وفقاً لها أن «تنط» مصر إلي المستقبل..مخرج عايز يعمل سينما بجد وفيلم يحتوي علي دراما حقيقية قد يفسد كل تلك المجهودات التي يقوم بها المنتجون والموزعون للحفاظ علي نفس التيمة التقليدية لمعظم الأفلام ونفس المسار المتخلف الذي تسير فيه السينما المصرية حالياً بنجاح منقطع النظير.. مطرب حيعملنا فيها فنان ويجتهد في البحث عن موضوعات مختلفة لأغانيه سوف يفسد تلك الهجمة الجلاليبية الروتانية أم عُقال والتي جعلت الجميع يغنون أغنية واحدة تافهة وتقليدية تنساها بمجرد انتهائها.. باحث علمي يمتلك فكرة اختراع من الممكن في حالة خروجه إلي النور أن يشقلب الدنيا رأساً علي عقب سوف يفسد منظومة الأنتخة العلمية التي نعيشها الآن.. كما أنه من المؤكد أيضاً أنه سوف يفسد فرحة الجموع والجماهير الغفيرة بانتصاراتنا الكروية.. مذيع مختلف وحقيقي أو مذيعة لا تتلعثم ولا تصطنع لغة عربية ركيكة قد يفسدون كل ذلك الركام والزكام الإعلامي الذي ترتع الفضائيات فيه حالياً.. رئيس قناة فاهم بجد مين اللي ينفع في الشغلانة ومين اللي ما ينفعش قد يسمح بحالة إعلامية جديدة تمسح كل ذلك التاريخ من الإعلام التقليدي.. فنان في أي مجال من المجالات قد يساهم في تحويل حالة النحت واللافن التي نعيشها الآن إلي حالة فن حقيقي مما قد يساهم بالتالي في إحراج كل أصحاب المَرَمَّات والسبابيب التي باتت تملأ البلد.. ولد وبنت يمارسان فعل العشق ويتصرفان بطبيعتهما قد يفسدان تلك المنظومة المجتمعية المتخلفة السوداء التي تجعل مجتمعنا حريصاً علي ارتداء بناته الحجاب والنقاب علي الرغم من أنه «اللي هو المجتمع» لا يضحك من قلبه ولا يكركع فعلاً سوي علي نكتة أو إفيه قليل الأدب.. كل تلك العناصر المختلفة من شأنها أن تفسد تلك المنظومة العامة المتخلفة التي نعيشها الآن.. وهذا بالطبع هو ما لا ينبغي له أن يحدث! بقي أن أخبركم أن تمثال «بلزاك» مقطوع اليدين يقف الآن شامخاً في أحد ميادين باريس الشهيرة.. يقف دون أيدي.. بينما الأيدي التي تم قطعها بسبب روعتها ومدي صدقها وحقيقتها.. لا أحد علي وجه الإطلاق.. يعرف مكانها بالظبط!