قالوا الليل يناسبها تماما.. انتظرتها في الليل، ولم تأت، وظل صوتها يصافح أذني مصافحة الأغراب.. ظل لفترة طويلة لا يتعدي حاجز الأذن.. يتوقف تماما هنا، ولا يخترق الشعور أبدا.. من بعيد بعيد يمر وأنا أجتهد في أن أقترب أو أفهم إحساسها، وهي تغني: «اعطني حريتي أطلق يديا» أو أفهم في أي شيء كانت تفكر عندما قالت: «هل رأي الحب سكاري».. إعلان فشلي في الاستيعاب كان يخرج دوما في عبارة تتكرر: «إيه اللي بتقوله.. مش فاهمة.. طيب بيحبوها إزاي؟».. عام بعد آخر ومساحات شاسعة من البعد تتراكم فوق بعضها بيني وبين السيدة المهيبة التي تقف علي المسرح ضخمة، وبهيئة ثابتة، والكل يستمع بانحناء لأشياء لا أفهمها، لكنني كنت أشعر أن هناك لحظة مقدسة ما الكل ينتظرها.. أكثر ما كان يجذبني في طقس الاستماع إليها هو نوع الجمهور الفخم بسيداته عاريات الأكتاف ورجالهن الذين يشعلون لهن سجائرهن.. هل هو انتقاص من قدرها أن أعلن أنني أهتم بتفاصيل جمهورها وحركاتها، وأتركها لمنديلها وفستانها الذي لا يتغير موديله، ولا ألتفت لما تقول؟! أعتقد أن أكثر شيء كان يبعدني عنها هو الكلام الكبير جدا الذي كنت أسمعهم يصفونها به لأفهم منه أنني قد أخسر حياتي لو فقط فكرت في أن أتحدث عنها علي أنها «مطربة» دون أن أذكر تلك التوصيفات من قبيل.. «الست» و«كوكب الشرق». ماذا حدث فيما بعد؟ ببساطة وجدت نفسي أبحث عن أغنياتها باستماتة عندما سمعتها ذات يوم تقول بإبداع لم يتكرر: «واثق الخطوة يمشي ملكا».. تعيدها وتكررها بأداء فعلا عصي علي الفهم.. إنها «الأطلال» من جديد.. نفس الأغنية التي صنعت بيني وبينها حواجز امتدت لسنوات طويلة عادت وصالحتني عليها.. هل أم كلثوم هي من فعلتها أم رياض السنباطي الملحن الكبير أم الشاعر الحزين إبراهيم ناجي؟ بعد ذلك تناوب كثيرون علي توثيق علاقتي بها.. محمد عبدالوهاب في «إنت عمري» و«دارت الأيام» و«هذه ليلتي» و«فكروني»، ثم فعلها بليغ حمدي بأغنيات «سيرة الحب» و«بعيد عنك» و«ألف ليلة وليلة». أم كلثوم تسكن أين؟.. لا أدري أي منطقة اختارت داخلي، لكنني أعرف أنها تحكي كثيرا عن أشياء أعرفها.. ولا تخذلني أبدا عندما أحتاج إليها.