مصر تحتاج ثورة ثانية . الكل يعرف ويشعر بها قادمة , متى وكيف بالضبط لا نستطيع الجزم . قرب صدور براءة مبارك والعادلى والشريف وعزمى وسرور أو إصدار أحكام هزلية تقارب البراءة أو وقف التنفيذ, هذا قد يشعل الثورة . الفلول الذين قال عنهم ساعى المصعد فى مؤسستى مخاطباً أحد زملائى ( خلاص ما دام مبارك طلع براءة أنتو يا فلول محدش عارف يكلمكوا ) .. قد يكون الفلول بوصولهم لمجلس الشعب القادم هم السبب فى ثورتنا . إنهم " شبيحة " مصر , وأى حكم يحاول فرض قوانين للكراهية والتمييز بين المصريين ويزهق القليل من الحرية التى قدمنا أرواحنا فى سبيلها فى 25 يناير , ويعتدى على آثارنا بعقلية قروسطية طالبانية ويلغى وجود النساء وعملهن فى المجتمع أو يضع لها شروطاً تتنافى وحقوق الإنسان واعتزازه بكرامته وحريته , كلها قد تشعل إما حرباً طائفية فى الحالة الثانية ما قد يصل– لا قدر الله – للتقسيم , أو يشعل ثورة حقيقية للثأر من الحزب الوطنى ( الذى ما زال يحكم كل مؤسسة فى مصر ) فى الحالة الأولى . ماهر حسن محمد السيد مواطن مصرى يعمل موظفاً بمترو الأنفاق ويأتى يومياً من بيته قرب أبو زعبل البلد .حالته مثل ألوف وربما ملايين ( وزير القوى العاملة يقول 90 حالة فقط ) من المصريين الذين قامت مصر بترحيلهم من العراق لدى قيام حرب الخليج . ماهر الذى عاد بأمر من الحكومة المصرية كغيره من العمالة المصرية وقتها حدثنى عن مشكلة مستحقاته قبل الثورة بكثير . ولما جاءت الثورة وبعد أن عهدتُ بمشكلته لزميلة مختصة بوزارة القوى العاملة والهجرة لم يحدث له شئ . فى رمضان الماضى وعدته , أنا التى بحكم اهتمامى ومجال كتابتى لست مسئولة عن تلك الوزارة أو أية وزارة , أن أذهب معه لوزارة القوى العاملة وقد حدث منذ أيام . فماذا حدث ؟؟ . فور دخولك مبنى الوزارة بمدينة نصر يأتى نحوك بهرولة بعض حراس الأمن يسألونك فى نفس الوقت بصوت زاعق " أيوه يا أستاذة , أيوه ! " . تعلو النبرة لو مشيت خطوة قبل أن تتوقف رغم أنك تمسك هويتك أو بطاقتك المهنية , ولأنى محظوظة أو ماهر حظه أفضل من غيره كنتُ أبرز كارنيه النقابة . قلت اسمى وجريدتى ثم : " عايزة أقابل سيادة الوزير " . أشاروا للدور الأول دون السؤال الأبدى " لماذا ؟ " . صعدنا فإذا بفيلق أو كتيبة من رجال الأمن الذين يبدون كحراس شخصيين للوزير مصفوفون على الجانبين فى ممر بالسجاد الأحمر . كأنهم خُلِقوا واقفين , كل منهم بالغ التأنق وأكثر من ستة أشخاص عدا مدير مكتبه يحدثونك كأنهم لا يرونك بغلاظة وخشونة و" تكشيرة " هدفها تخويفك وتيئيسك " ما عندوش وقت " و" حضرتك من غيرميعاد " والسؤال المتكرر " بخصوص إيه ؟ " " هل هى حاجة شخصية ؟ " . أجبت : " مش شخصية ولا خاصة بالوزارة , أنا جاية بخصوص مظلمة مواطن مصرى عادى . يعنى إيه ما أقدرش أقابله , المفروض فيه ثورة وكل الناس تقدر تقابله . . الاجتماعات مش أهم من شكاوى الناس وأحوالهم " . اندفع مدير مكتبه الأكثر صرامة وإرعاباً للمواطنين بحدة عنيفة وصوت مرتفع كمن يزجر تلميذة بمدرسة يقطع الكلام من باب التخويف والإهانة " حضرتك تروحى لأستاذة ... كذا وهىتسمع شكوتك وتكتب بيها تقرير ولما هو يبقى يشوفه تبقى تاخدى ميعاد . هو مش فاضى النهارده حيخرج من اجتماع يروح بره لاجتماع تانى " . قلت له : " أنا مستعدة أكلمه على الواقف وهو بيخرج من مكتبه طالما بدون موعد " . تدخل المسئول الإعلامى بهدوء دبلوماسى لإرسالى بالوصف إلى الأستاذة المهذبة التى مهمتها امتصاص غضب المواطنين والقول لهم , كما فعلت معى ومع ماهر أن المعلومات فى المشكلة هى كذا وكيت . لكنها فعلت ذلك بعد أول سؤال منها لصفتى الصحفية : حضرتك عايزاه بخصوص ريبورتاج ؟ . . لم أتفاجئ . وأثق أن سكة " الريبورتاج " كانت ستوصلنى أسرع للرجل لكن كنت غاضبة من زملائها ولم أشأ الدخول فى طرق ملتوية . ثم أنى كنت حكيت لهم أنها مظلمة مواطن مصرى . أخرجت لها كارت بمنصبى المهنى بالجريدة ولما أنهت شرحها قلت لها " فيه أسئلة أنا عايزة أطرحها عليه بخصوص المشكلة" . قالت " مش حيقولك أكتر من اللى قلته " . أجبت " برضه حانتظر لمقابلته ولو ماشياً لأن الراجل ده ( مشيرة إلى ماهر ) مكلمنى فيها من قبل الثورة " . كتبت على ظهر الكارت خاصتى " بشأن مظلمة مواطن مصرى بالمترو " وطلبت منها إدخال الكارت ويقرر الوزير إن كان سيقابلنا أم لا . فى هذه الأثناء جاء مواطنان انتظرا بجوارنا . كنت أحس أنى فى مقر الحزب الوطنى . ولأنى شاعرة ولست مختصة بأية وزارة ركضت بسرعة إلى مكان السجادة الحمراء لما رأيت رجلاً يخرج من المكان الذى يفترض أن به مكتب الوزير ولأن الرجل كان يبدو بهيبة ومركز وينظر لى منتظراً . توجهت إليه ومعى المواطن ماهر الذى لا يمت لى بصلة سوى جنسيتنا , وابتدرته دون تسمية عدا " السيادة " مُقدمة ماهر فإذا بالرجل بعد فترة يقول " أنا مش الوزير " . تدخلت السيدة المهذبة " مش ده الوزير" وهى تضحك . لم أضحك . رأيتها " عيبة " فى حقه وليس حقنا . ماهر نفسه حين سألته قبلها قال " ما أعرفش شكله " . الوزير الإله فى مصر . هكذا هم وزراء بلدنا . رأيت صورته الجريدية بعدها لكن الوجه المباشر عصىّ , محاط بالعسس والعسكر . ممنوع خلف جداره العازل بتحقير لا ينتهى للمواطنين من حرس وسكرتارية تعمل وتتنفس وفق منهج إلغاء المواطن وعدم رؤيته . المواطنون المصريون أمام هيكل البيروقراطية المصرية هم كما قال حاكم ليبيا ومجرم حربها " جرذان " و" صراصير " . يكاد الوزير نفسه أن يقول للمواطنين جملة القذافى النهائية المرض " من أنتم ؟! " . كان ماهر يسألنى ونحن نننتظر خروج الوزير من اجتماعاته الأكثر أهمية من المواطنين , "مفيش توضيح بأسماء المستحقين للتعويضات ومحدش بينشرها فى الجريدة الرسمية عشان نعرف اسم مواطن مدرج أم غير موجود . فين الشفافية ؟ " . ثم ظهر فجأة مواطن اكتشفت أنه زميل مهنة يتحدث بصوت عالٍ طالباً مقابلة الوزير وهم يمنعونه ولما جلس أمامنا توجه للسيدة الدبلوماسية " يا أستاذة ريحينى أنا بقالى خمس سنين على الحال ده " . وردد " مش ماشى إلا لما أقابله . واحد يقول لى روح لده والتانى روح لغيره . أنا حاقابل الوزير. " وإلينا بدأ يتحدث : " هى البلد دى مش حتتغير ؟ . فيه ثورة . احنا لسه أجيال , عشر سنين عشان تتغير " . أجبته " بعد عشرين سنة ممكن " . ماهر تدخل : " أنت بقالك خمس سنين , أنا بقالى من سنة 1990 " . وأكد لى ماهر أنه من ذلك العام لم يدخل المبنى لأنه كان ومازال يتعرض للمنع والتوقيف عند الباب وكل ما يحدث أن " بتاع الأمن " على البوابة الخارجية يأخذ جواز سفره فى تمثيلية رديئة الإخراج ليغيب من أمامه دقائق ويعود يقول له " لم يرد " ويصرفه . ليس مسموحاً دخول المواطنين المصريين العاديين , أى الذين لا يصحبهم صحفى أو صحفية , أية وزارة . ماهر حكى أنه منذ عودتهم من العراق كانت كل المحاولات تقف عند حدود الباب الخلفى للوزارة من منطقة الجراج وهى المرة الأولى التى يدخل فيها المبنى أصلاً أو يدخل من مدخله ( المخصص لطبقات معينة أو مهن معينة ربما ) والمرة الأولى التى يصعد للطابق الأول الذى به " سيادة الوزير " . كدتُ أبكى غماً . استعنا بالمواطن الذى يعرف شكل الوزير لدى انفراجة باب الاجتماعات فى الوادى المقدس طوى لأنهم أشعرونا أننا فى حرم الكعبة . من هو والوزير ؟ نسأل أنا وماهر ؟ . قبل أن يشير إليه كنت عرفته من وقوفه على رأس مائدة عملاقة بقاعة عملاقة حيث أمام كل ميكروفون زجاجة مياه معدنية وطبق ساليزون وتكييف رائع وصلتنا نسائمه . جرى المواطن الآخر فى ثانية ليقف مخاطباً الوزير وأنا أنتظر عند الباب . هجم الأمن علينا أنا وماهر لمنعنا وبدأوا يدفعون بالباب بعنف فى وجهينا . قلت بحدة " مش حادخل أعدك مش حادخل , بس ما تقفلش الباب " . استعانوا ببعضهم , يدفعون الباب من الداخل ويجذبونه من الخارج كأنهم فى معركة لكن بتردد نوعاً ومع أنى لم أنوى الاقتحام , حتى أتى مدير مكتبه الذى يحمل ملامح أقرب للجستابو أو المتقاعدين فى عصابات المافيا فكررت " مش حادخل بس سيب الباب موارب " , تجاهل ما أحرج الأمن ودخل وبلحظة دفع الباب من الداخل فى وجهى . سمعت صوتى يهدد أنى سأكتب بسبب المعاملة وصرخت فى أحد رجال أمنه العاتى " أنا مش جاية ازرع قنبلة ولا إرهابية أنا عايزة أقابله . مدير مكتبه اوقح واحد هنا لأنى وعدته مش حادخل وقلت له ما تقفلش الباب فى وجهى لكن قفله وأنا على بعد سنتيمترات من الباب " . ثم , والأمن يجرب الابتسام لأول مرة قلت " هو مش إله . ده ربنا بنقابله خمس مرات فى اليوم وبينهم دعاء" . بدأوا يذكروان اسم الله بآلية تنم عن الفصل المستديم بينه وبين أفعالهم وضمائرهم . خرجت المهذبة بهدوء تسأل " مين دى اللى بتزعق ؟ غادة " . قلت : " أيوه لأن ابلاب اتقفل فى وشى وما كنتش حادخل " . كان غضبى وصبرى وتصميمى قد بلغوا النقطة الأخيرة . خرج الوزير أخيرا ب " تكشيرة " وقال لى بتأفف حين قدمت نفسى ومن معى " بعدين تعالى المكتب مش هنا " . وظل يصرخ بحدة فى عدد من العمال والفلاحين بجلابيب أكبرهم كان شيخاً كبيراً يتحمل بكل لطف طريقة الوزير وزعيقه فيهم , وبدا أن الموضوع بشأن رحلات حج والوزير " يشخط " بحدة أمنية جعلت صوته كحراسه , وبمزيد من النفور والتعالى قال " أنا ما عنديش وقت , أنا عندى مقابلة مع السفير الفرنسى " . ومرة أخرى كدتُ أبكى حزناً على مصر . كنت أجعل المواطن ماهر يسير بجانبى , فيما الوزير يخرج من منطقة الحرم التى تنتهى إلى باب زجاجى يُغلق من الداخل , هو نفسه يفضى إلى مجمع المكاتب التى حول مكتبه / كعبته . خرج الوزير أمامنا ليعطى درساً كحضرة الناظر لبقية المواطنين الذين لم يسعفهم الحظ كمن دخلوا صباحاً فى منطقتنا وليس معهم صحفى . حتى ونحن نسير إلى مكتبه بعدما قال " فى المكتب " زاعقاً , كان ماهر يردد " برضه مش حاقابله ! " بيأس متوطن . " محدش يقف هنا " . أسمعها من الوزير كزلزال يدوى على المنطقة التى هى أول السلم ! .قالها للمساكين الذين يتم إشعارهم كل يوم أنهم متسولون . ثم أرسلوا لهم سكرتيراً لأنهم فى نظره أقل شأناً من أن يقابلهم بمكتبه كالسفير الفرنسى , والأرجح أن مشواره خارج الوزارة بعد الاجتماع كان لمقابلة السفيرالذى أثق أنه من الممكن أن يجعله ينتظر , حتى مع وجود موعد مسبق , لو تصادف أن بمكتب السفير مواطناً فرنسياً أتى بمشكلة بسيطة . هذا هو الفرق بين ثورتنا والثورة الفرنسية . آخر الأمر قابلنا الوزير . دعا مدير مكتبه الذى فى جبهته علامة الصلاة وفى مكتبة آية الكرسى مُذهبة أن يأخذ جواز سفر المواطن ماهر ويأتى ببياناته . ظل ماهر واقفاً رغم كل الكراسى أمام الوزير مباشرة وكنت الوحيدة التى دعته أصلاً للجلوس . خرجنا من مكتب وزير القوى العاملة بورقة لماهر من لجنة تعويضات الأممالمتحدة والمبلغ الذى فى حوزتها له كدفعة أولى وأن بعثة الأممالمتحدة بجنيف أغلقت متجهة لنيويورك وسفارتنا بجنيف هى التى يُفترض أن تتابع مأساة العمالة المصرية بالخارج كل شهرين ونحن نعرف ماذا تفعل ولا تفعل سفاراتنا بالخارج للمصريين من سنوات الغيط وأسلافه . أخيراً عرف ماهر شكل الوزير كما عرفته , وتحدث معه ولما خرجنا من المكتب شاكرين لوقته فوجئنا أن الباب الخارجى الزجاجى لمنطقة الحرم كان مغلقاً علينا وعلى الجميع ما استلزم انتظار الأمن ليأتوا ويفتحوه بالمفتاح وهم يتعللون ب " الناس " مشيرين إلى من جئنا منهم وعدنا إليهم وميزنى عنهم فقط للحظات - رغم المعاملة الرديئة من الأمن ومدير المكتب - مهنتى لا أكثر . لم أكن بحاجة أن يؤكد لى ماهر أنه لو جاء وحده ما كان سيقابل الوزير ولا سكرتيره . كنت أعرف أكثر لأغتم أكثر . وكنا نعرف , أنه حتى لو جاء ماهر مع مهندس أو طبيب ما كان سيتمكن من مقابلة الوزير, لأن المسئولين المصريين لديهم وقت للسفير الفرنسى ورئيس الوزراء والمجلس العسكرى وليس لديهم وقت لمن وصفهم المستشار أحمد الزند رئيس نادى القضاة ( الحالى ) إبان الثورة ب " الرعاع " .