أنظر الى كل من يهاجم حكومة الدكتور عصام شرف على تباطؤها في سياسات الحدين الاقصى و الادنى و تعديل قانون المنافسة و إقرار الضرائب التصاعدية و إعادة هيكلة المرتبات بالقطاع العام و إعادة بعض الشركات التي تم خصخصتها الى الدولة و إقرار مشروع ممر التنمية و غيره من المشاريع القومية و غير ذلك من المطالب وصولا حتى بالمطالبة بتعديل بنود كامب ديفيد، و لا أرى سوى مأزق أوقع فيه نفسه كل من الدكتور عصام شرف و المجلس العسكري. فلم يكن هذا أبدا دور الحكومة الانتقالية، سواء ان كانت حكومة الفريق أحمد شفيق أو حكومة الدكتور عصام شرف. فلقد كان دور هذه الحكومة يتمثل في ثلاثة مهام: التخلص من بقايا نظام مبارك، تسيير الاعمال و إدارة الدولة مؤقتا مع إعادة الأمن، و المساهمة في وضع أسس الدولة القادمة، سواء من حيث الدستور أو الانتخابات أو من حيث جمع و إعداد أفكار سياسية و تنموية للحكومة المنتخبة القادمة، و هي مهام ضخمة و معقدة دون الحاجة الى إضافات. و كل ذلك بالطبع مع الإحتفاظ بدور الدولة في حل و التعامل مع المشاكل الإجتماعية و الإقتصادية بأكثر من صورة هي متاحة لها سياسيا و عمليا، بعيدا عن التشريع المستفيض و طويل. و لكن من اليوم الأول قررت الحكومة الإضطلاع بمهام هي ليست من دورها أو حتى حقها نظريا الإضطلاع بها من حيث الاساس. فالسياسات ذات التأثير العميق على الدولة إقتصاديا و سياسيا و إجتماعيا مثل حدّي الأجور و النظام الضريبي و هي سياسات يتم صياغتها بعد دراسات أكاديمية جدية و واقعية، و يقترحها الحزب أو الإئتلاف الحاكم في البرلمان أو الرئيس أو الحكومة (حسب نظام الحكم) أمام البرلمان، و يتم مناقشتهم أمام ممثلي الشعب و التصويت عليهم عند الوصول لأغلبية كافية. و لكن بدلا من ذلك كله، تقبّل كل من حكومة شرف و المجلس العسكري ان لهما الصلاحيات في مثل هذه الأمور، و بذلك تحمّلوا المسئولية أمام الناس، و تضخم المأزق مع إزدياد مدة الفترة الإنتقالية و توسعت رقعة المطلوب من النظام الإنتقالي الحاكم الحالي و حكومة شرف الى ما هو غير منطقي زمنا و قدرة. و نتيجة ذلك كله: أصبح من المستحيل على النظام الحاكم ان يرضي الجميع. و ليس من الواضح تحديدا لماذا حدث ذلك. النظرية الأولى تقول ان ذلك يعبّر عن رغبة حقيقية من النظام (سواء على مستوى المجلس العسكري أو الوزارة أو كليهما) في تحقيق المطالب و إكتساب شعبية أمام الناس، ربما أيضا لإكتساب الشرعية التي تمكنه من لعب دورا مستقبليا في الدولة سواء على مستوى الأشخاص أو المؤسسات. و هناك بالطبع النظرية الثانية و التي تتبني وجهة نظر أكثر تشككا، و ترى في إتجاه النظام هذا رغبة في إبعاد تركيز الناس عن المطالب الرئيسية الأخرى مثل إصلاح و هيكلة الداخلية و محاكمة رموز النظام و حماية حرية الإعلام، و التي، بحسب النظرية، لم يكونوا قادرين على القيام بها بسرعة نظرا لصعوبتها و تعقيدها و تباعياتها التي قد تؤثر على النظام ذاته، و إعطاء الناس أثناء ذلك شعورا عاما بأن الدولة تقوم بالكثير و تحقق المطالب بالفعل كقاعدة عامة. و مما ساهم في تقوية هذه النظرية الثانية هو الإنتظار الدائم للنظام الحاكم حتى اللحظة الأصعب (و تحديدا قبل جمعات المليونيات، أو أثناء تصاعد و إستمرار إعتصام 8 يوليو) لتحقيق هذه المطالب، مما أعطى شعورا بإمكانية الوفاء بهذه المطالب الشعبية مع كون غياب الإرادة هو العامل الرئيسي للتأخر. و هناك من يتبنى النظريتين معا بالطبع، و لا أدري تحديدا أيا من الآراء هو الأسلم. و لكن المحصلة النهائية هو أنه، بالرغم من تحقيق المجلس العسكري و حكومة عصام شرف عددا من المطالب التي لا يمكن تجاهله، تظل العديد من المطالب الرئيسية معلقة. فما زال الإنفلات الأمني سيد الموقف، و ما زالا حريتي الرأي و الإعلام مهددين، و بعض المدونين و الكُتاب و الإعلاميين بدئوا يتخوفون مرة أخرى مما هو من المفترض ان من حقهم ان يكتبوه و يقولوه بصورة طبيعية بلا خوف، و عاد الإعلام الرسمي و المملوك للدولة تقريبا الى دوره التقليدي الذي تعودناه، و لا يوجد دستور أو وضوح يصاحبه إجماع على الخريطة الإنتقالية، و ما زالت محاكمات المدنيين بعيدا عن المحاكم الطبيعية لهم مستمرة، و تم تمديد حالة الطوارئ دون داعي حقيقي، و غير ذلك الكثير. و لكن الأهم من ذلك ربما، فقد كان من المطلوب ان يتم إعداد العديد من الخطط و المشاريع القومية الإقتصادية و السياسية لحل مشاكل الماء و الغذاء و المرور و تكدس السكان و البطالة و ما هو غير ذلك من أمور ستحتاجها الحكومة المنتخبة المقبلة بسرعة شديدة سواء كاملة أو جوهرا أو كنوع من الدفع على الاقل، و ذلك عن طريق إقامة حوار واسع وطني حقيقي يجمع القوى السياسية و التكنوقراطية المختلفة في صياغة حلول مبدئية و تحظى بإجماع كافي حول هذه القضايا الملحة بصورة تبث روح الأمل في شعب مرهق و محبط و تُشعره ببداية عملية حقيقية لبناء مصر جديدة. و لكن للأسف، فشلت المبادرات الشبيهة في خلق أي من ذلك بصورة كافية، و تحول أغلبها الى "مكلمة" مع إستثنائات (مثل قانون منع التمييز الديني، و هو خطوة إيجابية.) أثناء كتابتي لهذه الكلمات، تحاول كل من القوى السياسية و المجلس العسكري الآن وضع الملامح الأخيرة للخريطة الإنتخابية و الإنتقالية للفترة المقبلة. و لا أدري إذا ما كانت هذه المحاولات ستسفر عن نجاحا حقيقيا أو على الاقل سريعا، و لا أدري إذا كان الوصول الى هذه الخريطة سيُسّهل أم سيُصعب على النظام الإلتفات الى ما تبقى من مطالب رئيسية للثورة و المجتمع، و خاصة فيما يتعلق بملفات الأمن عامة و حالة الجهاز الأمني خاصة، و لا أدري إذا كان سيستطيع فعلا تحقيقها بالسرعة الكافية. و لكن أتسائل إذا كان على الاقل يستطيع النظام إعادة فتح ملف محدد قد يساهم في جعل الفترة الإنتقالية و رؤية الناس للنظام بصفة عام أكثر إيجابية: ملف البناء الوطني. لا يزال هناك فرصة محدودة للبدء في المناقشة الموسعة العلنية و طرح المشاريع و السياسات التي من الممكن ان تتبناها الحكومات المقبلة من حيث الجوهر أو بصورة كاملة لبناء مصر ما بعد الثورة. أدرك ان مع دخول القوى السياسية الأنتخابات في الفترة القريبة المقبلة، سيصبح ذلك الحوار أمرا أشد صعوبة و تعقيدا و ربما سيستحيل على البعض، و لكن يمكن حتى فقط محاولة التركيز على المشاريع التي يغيب عنها الطابع السياسي و الأيديولوجي، مثل تطوير الثروة السمكية و النهضة بالزراعة و مراجعة قضايا التخطيط العمراني، أو فتح كافة المواضيع للنقاش و قصر الحوار على الجهات التكنوقراطية فقط لتغييب النزاعات الأيديولوجية. على الأقل، لعلنا نشعر إننا لم نستخدم كل هذا الوقت منذ شهر فبراير و حتى الإنتخابات في محاولات هدم النظام السابق فقط و لم نستخدم أي منه بالقدر الكافي في بناء ما هو قادم، و أنه لدى الناس ما يمكن ان يتفائلوا به حاضرا و مستقبلا بصورة حقيقية. و هناك تجارب عدة من الإستفادة منها في إعداد و تسيير مثل هذا الحوار، مثل تجارب الإتحاد الأوروبي في إعداد مشروع الدستور و وثيقة الحقوق و القوانين الموسعة و غيرهم، و حتى تجربة الحوار الوطني التي قمنا نحن بها في مصر و التي فشلت نظرا لإستخدامها بصورة خاطئة. إن مثل هذا الحوار هو من صميم الدور المنوط بالنظام الحالي و الذي كان من المفترض ان يقوم به، و لكن من حسن الحظ انه لم يفت أوانه تماما.