أنا بائع متجول، من فضلك.. لا تبعد ناظريك عن الصفحة ما إن عرفت من أنا، فأنا أعرف أنكم - القارئون والمثقفون والمتعلمون - تتمنون زوالي وزوال أمثالي من الوجود، بل إن منكم من يتمنى في نفسه أن يجمعونا نحن الباعة الجائلين ويفجّرونا معاً، لترتاح البلاد من مصيبة وجودنا في أماكن تجمعنا، إما في الشوارع الجانبية والمناطق العشوائية قبل الثورة، أو في الميادين الكبرى والشوارع الرئيسية بعدها، ولكن قبل أن نستسلم وتستسلموا لأمانيكم وأمنياتكم بالخلاص منا؛ أرجو أن تستمعوا إلى كلماتي لعلها أن تبلغ في نفوسكم وعقولكم ما أتمناه ونتمناه نحن الباعة الجائلين خاصة، والعاطلين عامة. قد تتعجبون حين تعرفون أنني حاصل على بكالوريوس تجارة من جامعة القاهرة منذ عشرة أعوام، وأديت الخدمة العسكرية ! وكذلك العديد ممن أعرفهم من الباعة الجائلين في مدن مصر جميعها، حاصلون على شهادات جامعية من جامعات مصر في الحقوق والتجارة والآداب، وكثير منهم حصل على شهادات متوسطة في التجارة والصنايع، ولما كان أن تخرجت فلم أجد الدنيا الوردية التي حلمت بها يوما؛ الوظيفة والعروسة والشقة، والأبناء والحياة المستقرة؛ أجبرتني الظروف على امتهان هذه المهنة؛ البائع المتجول، ووقفت للمرة الأولى في الشارع أبيع (التِوَك) ومشابك الشعر والأمشاط والأكسسوار الرخيص للبنات والفتيات والنساء، كنت أعود يوميا بربح لا أقل من 20 جنيها، وتوسعت تجارتي وكبّرت عربة بضاعتي، واتفقت مع صاحب أحد المحلات في ميدان مستشفى أم المصريين لأضع عربتي أمام دكانه مقابل عشرة جنيهات يوميا. لا أكذبكم القول أن الفترة التي سبقت الثورة كانت من أقسى فترات حياتي كبائع متجول، فالبلدية وشرطة المرافق كانوا يفاجئوننا بحملاتهم، ويستولون على بضاعتنا وعرباتنا الخشبية، ولا يعيدونها إلينا إلا بتلقي الرِِشى والإكراميات التي تتعدى قيمتها ما قد يربح أحدنا في أسبوع، وقد يكون ثمن إرجاع بضاعتنا إلينا علقة ساخنة أو خدمة مجانية لقسم الشرطة أو في منازل الضباط، المهم استطعنا أن نوفق أوضاعنا ونرتب أمور حياتنا على هذه الأسس؛ أولا أننا دائما مخالفون للقانون، ثانيا أننا يجب أن نحتمي بأحد الفتوات أو البلطجية الذين يمسكون زمام الأمور في الحي الذي نقف فيه، وهؤلاء البلطجية هم من نستقوي بهم على ضباط وأمناء البلدية وقسم الشرطة، على الأقل يحموننا مقابل الإتاوة التي ندفعها، أنا مثلا؛ أدفع عشرين جنيها يوميا لاستئجار مساحة الرصيف التي أضع عليها (فَرْشي) من فتوة منطقة أم المصريين والجيزة، وزميلي خريج الحقوق يدفع خمسين جنيها لقاء تمَيُّز موقع مساحته، وهكذا.. نقضي حياتنا بين مطرقة الحكومة والبلطجية المسنودين منها؛ وسندان كراهية الناس لنا. أما ما أريد أن أحدثكم عنه؛ فهو ما حدث منذ 25 يناير الماضي، صدقوني.. لم أفرح في حياتي قدر ما فرحت يومها، إذ أيقنت أن فرج الله قريب، وأن غمة الفساد ستنزاح، وكان أول شئ فعلته هو أن لملمت بضاعتي، وربطت قماش الليل فوقها ودفعتها إلى حيث أتركها ليلا عند جار لنا في ساقية مكي بالجيزة، ويوم 26 يناير كنت في ميدان التحرير مع الثائرين أهتف معهم: (يسقط يسقط حسني مبارك)، وكنت أقولها وأزعق بها من قلبي، فهذا الرجل هو الذي جنى علي وضيع مستقبلي وجعلني بائعا جائلا من حملة المؤهلات العليا، بفساده وفساد من حوله، ولا يمكن أن يأتي علينا أسوأ من عهده، وشاركت الثائرين طعامهم وشرابهم ونومتهم، وبعدها بيومين شاركتهم معركتهم ضد الأمن والقنابل المسيّلة للدموع والرصاص الحي والميت، وبقيت في الميدان حتى يوم 11 فبراير، وفرحت وهيصت مثلما فرح الناس وهيّصوا... وروّحتْ. أنا لا أدّعي أنني من ثوار التحرير، ولم أنتم إلى أي من ائتلافات الثورة أو الأحزاب أو الجماعات، فهذه رفاهية لم أحلم بها.. المهم.. مر يومان وثلاثة وأسبوعان وثلاثة، وأنا أتابع الأخبار كغيري، وأرفض أن أنزل ببضاعتي إلى الميدان؛ أم المصريين طبعا، حتى جاءني صديقي بتاع الحقوق ولامني على تقصيري وإهمالي وتكاسلي عن النزول إلى العمل، وكان ردي عليه أن الأمور تغيرت بعد الثورة، وأكيد هيفكروا فينا، ضحك مني صديقي وقال عني أنني أهبل، ومرت فترة حظر التجول، ورُفع الحظر وقررت تحت ضغط الحاجة أن أعود إلى العمل، فوجدت مساحتي قد أُجرت لبائع غيري، واستشرت صديقي فأشار علي بميدان الجيزة، ميدان الجيزة ؟ وهل سيسمح لنا الأمن ؟ يا عم أمن مين، هو بقى فيها أمن ؟ ونزلت ميدان الجيزة، وآسف جدا أني نزلت، فالآن أنتم تعرفون ما فعلناه فيها لأربعة أشهر حتى مضى رمضان، ونزل الجيش إلى الميدان وأزال عساكره كل قذارتنا وبضاعتنا وعرباتنا . والآن .. يا حكام البلد ووزراءها، بعد أن نظفتم البلاد من قذارتنا، وأرحتم المواطنين من قرفنا ووساختنا، واعتقلتم من اعتقلتم، وحبستم وحققتم وحاكمتم وقاضيتم وقضيتم، قولوا لنا من فضلكم ماذا نفعل بعد أن قطعتم علينا سبيل رزقنا ؟ هل لدى أحد منكم حل لمشكلتنا ؟ أعرف جيدا ألا رد لدى أحد منكم، فأنتم أنفسكم لا تعرفون ما تفعلون، ولكني فقط سأخبركم بما فعله البعض منا؛ باعة متجولين أو متبطلين بعد الثورة، مجموعات اتفقوا مع مهربي الأنفار في برج البرلس والمنزلة، أركبوهم زوارقهم المتهالكة بعد أن أخذوا منهم تحويشة العمر ليهربوهم إلى إيطاليا واليونان ومالطا وقبرص، البعض القليل منهم وصل إلى هناك، وآخرون رست بهم سفنهم في ليبيا، ومجموعات أخرى لا نعرف عنها شيئا إذ ابتلعتهم أمواج البحر.. البعض الآخر تحالف مع الشيطان، ومشوا في ركاب البلطجية واللصوص والمجرمين، وامتهنوا سرقة الناس في الشوارع ومنهم من احترف سرقة المنازل أو السيارات .. يعني بقوا حرامية كثيرون جدا عادوا إلى العادات القديمة قبل الثورة، ويلعبون لعبة القط والفأر مع رجال الشرطة؛ محاولين أن يعيدوا الود القديم ويستميلونهم مرة أخرى بالرِشى والإكراميات والمشاركة، ومستغلين حالة الخواء الأمني. أيها السادة الحكام والوزراء.. هل لدى أحد منكم حلٌ لمشكلات البطالة ؟ أليس لديكم أفكار ؟ أليس لكم رؤية استراتيجية للمستقبل ؟ ألستم في مناصبكم العليا هذه لتفكروا في مصلحتنا ؟ ألستم الرعاة ونحن الرعية ؟ لماذا لا تنتجون أنتم أفكارا لننفذها نحن ؟ لماذا لا تخصصوا مساحات من الأرض بالإيجار للباعة الجائلين تكون أرضا للسوق ؟ لماذا لا تتبنون الشباب المتعلم الطموح فتخصصوا لهم الأراضي ليستصلحوها ويدفعوا ثمنها بعد بدء إنتاجها ؟ لماذا لا تشغّلون المتعلمين منا في مشروع وطني لمحو الأمية ؟ إن كنتم ليست لديكم أفكار لتقيموا البلاد من عثرتها، فاتركوا المناصب لمن يستطيع تحمل تبعاتها أمام الله، وتكون لديه القدرة على التفكير في المستقبل، إنني أتحدى أي وزير أن يأتي فيقف مكاني ليعيش نفس ظروفي، وإن فعلها؛ فسأهديه فَرشي ليقف بجواره ويصيح بأعلى صوته: التوكة بجنيه يا بلاش... إسلمي يا مصر.