كنت اتحدث مع احد اصدقائي، و كان يشجعني على الانضمام الى الحزب الذي قد انضم اليه هو شخصيا مؤخرا. سألته عن برنامج الحزب، فقال: "الحزب يؤمن بدولة مدنية، ديمقراطية، حرة، تؤمن بالاقتصاد الحر مع تطبيق العدالة الاجتماعية"، و هي نفس الجملة التي تجدها حرفيا على مواقع كل الاحزاب. و عندما اردت معرفة تفاصيل اكثر، تلعثم وتلعثم ثم قال لي: "انت هتعقدها؟! من الآخر، كل الاحزاب زي بعض. انت عايزها مدنية و لا ايران؟ لو مدنية، خش معانا و بلاش وجع دماغ و فلسفة في كل حاجة. لو عايزها ايران، خش مع السلفيين أو الاخوان." و نفس الحوار حدث لي مع صديق آخر ذو ميول محافظة، و كان سؤاله لي في نهاية الحوار: "انت مع الاسلام ولا ضده؟! لو معاه، خش معانا. لو ضده، خش في الاحزاب الكافرة التانية. ميفرقوش عن بعض. هذا الكلام مأساوي بأكثر من صورة، و انتشاره بصورة واضحة هو شيء أكثر مأساوية. فالحوار في السياسة عادة ما يفترض كونه حول قضايا الدولة الاساسية، مثل اي انواع التأمين الصحي الذي يناسب الدولة و مواردها، أي السياسات التعليمية هي الافضل، اي طرق الدعم و الاعانة لمحدودي الدخل و من يعانون البطالة هي الانسب، دور الدولة في الاقتصاد و حجم حرية الاسواق، العلاقة بين مؤسسات الدولة، الاصلاح القانوني و الهيكلي للدولة، نظام الحكم ككل، توازنات القوة و التحديات الأمنية في الصعيدين الاقليمي و الداخلي و القوة العسكرية و كفائتها لدى الدولة، و غيرها من الاسئلة الحقيقية التي تقسم الاحزاب و التيارات في الدول حول العالم و تكون محور خلاف حقيقي و بناء اثناء الانتخابات. و لكن، يتحول الحوار يوما بعد يوم في مصر و في الدول العربية الى: "هل انت ليبرالي/علماني/كافر ام مع الشريعة؟" و للاسف، فهذا سؤال لا يعبر عن كارثة حقيقية في الثقافة السياسية. فهو سؤال اختزل السياسة كلها الى اذا كنت مع تطبيق (المفهوم الوهابي او أو الحنفي أو غيره، حتى نكون دقيقين) للشريعة أو ضد ذلك، و هو سؤال ملغم. و المأسآة هي ان اغلب الاحزاب، مع بعض الاستثنائات، لم تقوم حتى الآن بتقديم مشروع انتخابي متكامل، و تكتفي بالعناوين الرنانة الفارغة مثل: "التعليم اهمية قصوى للدولة" و "الرعاية الصحية من كرامة كل مواطن". و ما اريد التركيز عليه هو ان ذلك كله يصب في مصلحة واحدة، و هي مصلحة الاحزاب ذات الاتجهات المحافظة، و لا اقصد ان اتحيز ضدها كما سأوضح. فترسيخ الاختيار بين "الحزب المتدين و الحزب الغير متدين/الكافر" لا يضع امام المواطن الذي ما زال يتعلم ابجديات السياسة اي مساحة للاختيار من الاساس. و انا ليس لي اي اعتراض على الاحزاب ذات المرجعية ذات التفاسير المحافظة طالما لم تستخدم الشعارات الدينية في العمل الانتخابي و لم تعتمد فقط عليها دون غيرها في العمل التشريعي، و ارى ان وجودها قد يثري الحياة السياسية و ربما يعيد بعضا مما فقدناه من وجود للمبادئ الانسانية في العمل السياسي (بالرغم من العديد من البشائر الغير مطمئنة، و ان كانت كل الاطراف السياسية على إختلافها لهم من مثل هذه البشائر)، و لكن يحزنني اختزال الجدل السياسي في هذه الجدلية الغير منطقية و الغير بنائة. فكما قلت من قبل في احدى المقالات ان ما يثير السخرية في الامر ايضا، عند النظر الى الاتهامات الشائعة ضد الليبراليين، هو ان الغالبية الواضحة ممن هم علمانييون او ليبرالييون هم متدينون (على عكس ما يدعي البعض)، و لكن يفضلون حرية الدولة و المواطن (شبه) التامة لأسباب مختلفة و العديد منها منطقي جدا، منها احترام وجود تفاسير و فلسفات مختلفة في تناول الشريعة و لكل منها شعبية مختلفة، و الخوف لدى البعض من الجمع بين السياسة و الدين نظرا لتجارب بعض الدول الاخرى و ما اسفرت عنه، و حتى الايمان الحقيقي لدى البعض ان الحرية افضل للدين، و لكم حق الاختلاف مع هذه الرؤى. و لكن للأسف، مازالت الاحزاب الليبرالية تهدم نفسها بنفسها امام مساحة كبيرة من الشعب بإستمرارها في اتباع نفس السياسة الخطابية في التعامل مع الناس و التي، في احسن الاحوال، تقدم نفسها بصورة غير دقيقة تؤدي الى اعادة الحوار الى إطار ان السياسة هي الاختيار بين "الحرية" و "الشريعة"و كأنهما لا يختلطان. اذا كان لليبرالية المصرية ان تخرج من الفخ الذي تقع و توقع هي نفسها فيه، فعليها ان تنهي حصر السياسة في هذا السؤال الغير منطقي عن طريق أخد عدة خطوات، منها الآتي. أولا، عليها الا يبدو دائما و كأنها تخاف من الدين ذاته كما يعتقد البعض مخطئا، و ان تبحث كيفية مناقشة المواطنين مباشرة حول مخاوفهم من الليبرالية و ما قد يكونوا فهموه عنها بصورة ليست صحيحة، و عدم التخوف من الاستشهاد احيانا بنصوص دينية و فلسفية ترتبط بالمفكرين الاسلاميين امثال الإمام محمد عبده طالما هم على دراية كاملة بهذه النصوص و معانيها. بالإضافة الى ذلك، لابد من ربط الليبرالية بمصر و تاريخها، و توضيح كيف ان الليبرالية في الاساس ليست فكرا غربيا غريبا و ان مصر طالما عرفت عناصر عديدة من عناصر الليبرالية على اكثر من مستوى في الدولة و المجتمع، بل و ان تجربة ثورة يناير ذاتها و صورة التعايش المشترك في ميدان التحرير كان مثالا واضحا عن الليبرالية في مصر و كيف يمكن للجميع ان يتعايش و ينتصر في أهدافه المشتركة مهما إختلفت الناس في أفكارها الشخصية. ثانيا، لابد من مقاومة السمعة التي ينشرها البعض (و خاصة في التيار اليساري) ان الليبرالية تعني النظام الاقتصادي في عهد مبارك بفساده و قوانينه الفاشلة في عديدها و التي في حقيقتها لا تمت لليبرالية الاقتصادية السليمة في شيء، أو ان الليبرالية تعني بالضرورة رفع الدعم و عدم الاهتمام بالفقراء و حقوق العمال، و ان الليبرالية في الحقيقية هي طيف سياسي كامل يبدأ من مؤيدي التدخل المحدود للدولة في الاقتصاد (مثل الليبرتاريين) و انتهائا بمؤيدي الاقتصاد المشترك الذي يجمع بين قطاع عام و قطاع خاص كلاهما قوي. ثالثا، لابد من اختيار شخصيات اكثر جاذبية و شعبية لتخاطب الناس بدلا من بعض الرموز العامة أو الشخصيات الحالية و التي تبدو و كأنها متعالية او لا تتحدث لغة الشعب المصري او حتى تشبهه في الهيئة و الشكل من حيث الاساس، و ان تمارس النخبة الليبرالية قدرا اكبر من التبسط في النقاش مع المواطن المصري. رابعا، لابد من العمل على مستوى الارض بصورة أكثر توسعا، و إزالة سمعة يرددها البعض "أن الليبرالييون لا يهتمون مثل الاسلاميين". الاحزاب المحافظة تقوم بأعمال عظيمة و جليلة في الرعاية الصحية و الرعاية الاجتماعية و المساعدات الاخرى علس مستوى المدن و المحافظات، و ساعدوا ناسا كثيرة كانت في شدة الحاجة الى هذه المساعدة، و هم يحمدوا على مجهودهم هذا و ضربوا بذلك مثلا عظيما للعديد من المصريين. و لكن، خوفا من ان يكون هذا هو المعيار الوحيد في إختيار الاحزاب و نظرا (و هو ما أهم) لأنه دور كل انسان ان يساعد كل من يقدر ان يساعده ممن كان اقل حظا منه في الدنيا، فلابد من ان يكون للتيارات الليبرالية الاخرى دورا فعالا في مثل هذه المساعدات الانسانية ايضا. خامسا، على الاحزاب ان تبدأ في بناء مشاريع حزبية متكاملة و فتح النقاش العام حول هذه القضايا السياسية التي تستحق الجدل بصورة فعلية، مثل التي ذكرتها في أول المقالة. فالمواطن المصري عليه ان يفهم انه لا يوجد شيء اسمه "حزب اعداء الدين" و مثل هذه السخافات، و عليه ايضا ان يفهم انه عندما يختار حزبا، فهو يختار سياسات تعليم و رعاية صحية و تنمية اقتصادية و رؤية سياسية و امنية خارجية و غيرها من السياسات التي تبنى عليها الدولة بحق. كل انسان يستطيع ان يقنع من حولة بآرائه و تفسيره للدين، و تغيير تصرفاتهم الدينية عن طريق مجهوده الفردي، و لكن لن يمكنه المساهمة في بناء دولة على قواعد سياسية سليمة دون ان تصوت لكيان سياسي يتبنى هذه الرؤية الشاملة، اي كان هذا الكيان، سواء ان كان تيار محافظ او يساري او ليبرالي او قومي او غيرهم. اذا كان لمجلسي الشعب و الشورى القادمين، و للرئيس المقبل، ان يقوموا بأكثر من وضع دستور الدولة و رسم معالم نظام الحكم، و البدء فعلا في حكم البلاد و تطبيق رؤي حزبية لسنوات قادمة، فالوقت قد حان لمناقشة تلك الرؤى الآن، و ليس بعد الانتخابات او قبلها بأسبوعين.