أبدأ المقال بسؤال بسيط للمجلس العسكري في مصر: هل ما حدث في مصر كان ثورة حقيقية، أم ثورة مشروطة؟ وما هو مفهوم المجلس العسكري لمصطلح ثورة؟ أم أنها من وجهة نظره "ثورة، ولكن.."؟ من قال إن أهالي الشهداء يريدون الحصول على الدية مقابل دماء وأرواح أولادهم؟ من قال إن العدل هو إبقاء القاتل في عمله وكل ما في الأمر هو نقله إلى مكان أو فرع آخر؟ لكن القانون يجيز التعويض بشرط محاكمة القاتل أمام القضاء بعد وقفه عن العمل أو احتجازه لكي لا يؤثر على مجريات القضية. هذا أبسط إجراء يمكن أن يتخذ إذا كان المجلس العسكري الانتقالي والحكومة الانتقالية ينويان بجدية البدء بتنفيذ منجزات الثورة ووضعها على طريق الديمقراطية والعدالة. كل المؤشرات، خلال الأشهر الستة الماضية، تؤكد أن مصر تحكم بنفس عقلية نظام مبارك. كلنا نعرف أن سلك الشرطة، والأمن عموما، مرتبط ببعضه عن طريق النسب إلا من نسبة ضئيلة للغاية تمثل الاستثناء الذي يؤكد القاعدة (شيء قريب جدا من منظومة كليات الطب في مصر). ونعرف أنه من الصعب ألا يعمل الزميل خاطر لزميله. ولكن ذلك فوضى بكل المعايير، ويعكس أن ما جرى منذ 25 يناير 2011 لم يؤثر إطلاقا في العقلية الموجودة والمصممة على نفس طريقة الأداء والسلوك والتصرفات. كلنا يعرف أن 30 عاما من الفساد والمحسوبية والتضليل والتدليس خلقت أجيالا حاكمة مشوهة الفهم والتلقي والسلوك. لكن الكارثة أن هذه الأجيال قامت بأكبر جريمة في تاريخ مصر، ألا وهي دعم سلطتها وتعزيزها بالنسب وارتباط المصالح والأملاك وعمل الملفات لبعضهم البعض وللآخرين من أجل إحكام الدائرة على الدولة والشعب تنفيذا لمؤامرة تحالف السلطة القائمة على الأمن والعنف مع المافيا المتمثلة في رجال الأعمال والمنظومة الإدارية البيروقراطية البالية. خلال 6 أشهر تبذل كل المحاولات الممكنة وغير الممكنة لإجهاض الثورة وتحويل مسارها في اتجاه إصلاحات شكلية تحافظ على دعائم وأركان النظام القديم وطريقة إدارته وإنقاذ أكبر عدد من المذنبين والقتلة، وعلى رأسهم رئيس الدولة المخلوع وأسرته وأقاربهما وكل من كرسوا حياتهم لنهب الدولة والشعب. كل ذلك كفيل، وهو من طبيعة الأمور أيضا، أن يطور من أداء الثورة والشعب. فالمنظومة الإعلامية في مصر لم تتغير إطلاقا. كل ما في الأمر أن "المتحولين" أجروا بعض الإزاحات في طريقة أدائهم بما يخدم الثورة المضادة ويحقق للسلطة الجديدة "المجلس العسكري والحكومة" رغبتها في صياغة الأمور بعيدا عن مسار الثورة. وإمعانا في تثبيت هكذا منظومة إعلامية اختاروا لها وزيرا لا يصح أن يدير وزارة إعلام لأسباب كثيرة منها المهني ومنها العقائدي. علما بأن مصر ما بعد 25 يناير لم تعد بحاجة إلى وزارة إعلام. بالضبط مثلما هي ليست بحاجة إلى وزارة ثقافة، لأن المتحولين في الوزارتين هم المسيطرون على كل شيء. فكما جرت تنقلات للقتلة والمذنبين في أجهزة الأمن جرت تنقلات في وزارتي الإعلام والثقافة. ومن لا يصدق فعليه أن يستمع إلى محطات الراديو المصرية أو قنوات التلفزيون المصري أو يقرأ الصحف الحكومية المصرية: نفس الأداء البليد والمهنية الضحلة واللت والعجن والتهتهة والطرح التآمري والبحث عن سيد أو سادة جدد. كل ذلك كفيل بأن يغير من أداء الشعب. فلماذا الدهشة والتعجب؟ فالشعب الذي اتهموه بأنه لا يفهم في الثورات وبأنه قام "بهوجة" ولكن "جت مع العمي طبات"، وبأنه غير منظم وغير قادر على بلورة مطالبه ووو.. أثبت خلال 6 أشهر أنه قادر على تنظيم نفسه وأنه واع لكل ما يدور حوله وأنه ربى كوادره في أتون الثورة وفي الشوارع والميادين. الثورة أفرزت كوادرها ولكن ليس وفقا للتصورات السياسية والفكرية القديمة. الوقت لعب لصالح الثورة والثوار والأجيال الشابة من الشعب المصري. لقد عولت الآلة القديمة المحافظة والرجعية على أن التسويف والإبطاء سيثبط من عزيمة الناس، وعولت على أن الإهانات التي ستوجه بشكل منظم ومدروس لفتيات الثورة وشبابها ستحبطهم وتجعلهم يجلسون في بيوتهم مكسورين. لكن العكس هو الذي حدث: كثرت تصريحات وتناقضات وتضاربات الآلة الرجعية المحافظة، وكثرت اعتذاراتها، وتضاعفت تخبطاتها لدرجة أن البعض يتحدث الآن عن إمكانية وقوع قطيعة بين الشعب وثواره من جهة وبين تلك الآلة الرجعية المحافظة من جهة أخرى، وقد تحدث مواجهات تؤسس لموجة ثالثة من الثورة! إذا كانت هناك خطورة آتية من الخارج على مصر، لماذا لا تقوم الجهات المختصة بالإعلان عن ذلك في وسائل الإعلام ولكن بدون سيناريوهات وتلفيقات لشغل الرأي العام؟ إذا كانت هناك تهديدات إقليمية مبطنة من دول ما، لماذا لا تتعامل السلطات القائمة في مصر مع شعبها بشفافية وتطلعه على ذلك بمصداقية لأن الشعب المصري لن يتحالف مع التآمرات الإقليمية والدولية ضد بلده؟ إذا كانت هناك تهديدات داخلية ومخاطر من جانب قوى معينة أو أفراد أو شلل، لماذا لا تحددهم الجهات المختصة وتتعامل معهم وفق القانون وتطلع الشعب على تلك المجهودات؟ أمور بسيطة ليس فيها خطر أو إفساد لقضية ما. ولكن يبدو أن المجلس الانتقالي والحكومة الحالية يعتمدان السرية في العديد من الأمور ويطلقان لخيالهما العنان بشأن الخطر على قناة السويس والبورصة ومجمع التحرير ومترو الأنفاق. إن الشعب المصري الذي لم يفعل ما يضر البلاد طوال حياته، ومنذ 25 يناير 2011 بالذات، لا ينوي إطلاقا خيانة نفسه ودولته الآن. الشعب المصري الذي حافظ على مصر عندما ضربته الشرطة وقوات الأمن بالرصاص ثم هربت، يرجو ممن يتهمه "بتعطيل المصالح!" وإعلان "المطالب الفئوية!" أن يعتقل البلطجية ومن يقفون وراءهم، وأن يوقف قتلة المصريين عن العمل تمهيدا لمحاكمتهم، وأن يطهر وسائل الإعلام والمؤسسات الثقافية والدينية من "المتحولين"، وأن يوقف عودة "العائدين" من السجون بعد المحاكمات المضحكة التي جرت لهم، وأن يكف عن المماطلة والتسويف في إحقاق المطالب الاجتماعية، وألا يتلاعب بعواطف ومشاعر بسطاء المصريين عن طريق وسائل إعلام بليدة ومتخلفة ومؤسسات ثقافية مترهلة وكئيبة... "صلبوا البلطجية وعلقوهم على أعمدة الكهرباء في ميدان التحرير بدلا من أن يسلموهم كالعادة لقوات الجيش"! لماذا لجأ البعض إلى ذلك بعد 6 أشهر "من نَشَفَان الريق" مع المجلس العسكري ووزارة الداخلية؟ هل المجلس ووزارة الداخلية لا يعرفان فعلا من هم البلطجية، ومن يحركهم؟! أم أن أولوية إرضاء الخواطر وعدم إهانة قتلة المصريين تأتي على حساب الثورة وأرواح الشهداء وإهانة أهاليهم وإذلال فتيات الثورة وشبابها؟ البلطجية يعترفون على من يحركهم، فما هي الخطوة التالية المنطقة والقانونية من جانب السلطات؟ اللواء الرويني خرج ليبرر كارثة اللواء الفنجري بقوله: "لهذا قررنا أن يخرج اللواء محسن الفنجري بهذا البيان ليقول أمرين .."يطمئن الشعب بوجود الجيش حاميا، ويعطي رسالة لمن يفعل هذا ويعبث بأمن مصر مفادها "خلوا بالكو إحنا موجودين". ولكن الرسالة جاءت عكسية، لأن ما نراه على أرض الواقع يختلف تماما عن "الكلام المعسول" الذي يقال لنا بعد كل مصيبة يرتكبها هذا أو ذاك. إذا، لا مفر من أن يقوم المجلس بواجباته حسب القانون ويعلن عن ذلك لقطع دابر "المؤامرات الخارجية والداخلية" وحشد الشعب وثواره حوله وإلى جانبه لصد المخاطر المحيطة والقائمة، لا أن يتم توجيه إنذارات وتحذيرات عشوائية، و"اللي على راسه بطحة يحسس عليها". المخاطر ليست آتية إطلاقا من ميدان التحرير، ولا من شعب السويس العظيم الذي تتحالف ضد الآن قوات المجلس العسكري مع عساكر الداخلية، ولا من شوارع وساحات مصر التي تضم أبناء 25 يناير. المخاطر آتية من التلفزيون والراديو المصريين والصحف الحكومية المصرية وقتلة المصريين الموجودين على رأس أعمالهم والمسجونين والمرضى المؤقتين وأقاربهم في الخارج وشركاتهم التي لا تزال تعمل وتقوم بالتمويل. المخاطر آتية أيضا من الفارين والهاربين وأقاربهم وأنسبائهم الذين يديرون أعمالهم في داخل مصر وخارجها. إذا كانت هذه الأمور واضحة، فهناك إجراءات قانونية ينبغي اتخاذها فورا للحفاظ على الثورة وأبناء 25 يناير، وتفادي شبهة اتهامهم بما ليس فيهم ولا ينوون القيام به. لقد بدأت الموجة الثانية من الثورة المصرية برفع إصبع اللواء الفنجري في وجه المصريين. وهي موجة طبيعية ومنطقية على طريق الثورة وتحقيق منجزاتها. وستضاف إليها عناصر جديدة مثل رفض الأبوة بشكل قاطع ونهائي، وإدراك عملية التشدق المستمر بالحفاظ على الثورة والشعب، وفهم البطء المتعمد في تحقيق مطالب الثورة، ثم القطيعة مع المجلس وأداء الحكومة الضعيف. وستكون الكرة في ملعب الأخيرين. وسيعتمد بدء الموجة الثالثة من الثورة المصرية على توقيت قذف الكرة وطريقة قذفها في وجه الثورة وأبناء 25 يناير. في الموجة الثالثة سيتحدد مكان البلطجية والمتحولين والعائدين، ومكانهم معروف من الآن. لن يرفع المصريون من أبناء 25 يناير السلاح أبدا، ولن يقعوا في فخ الحماية الدولية من العنف والقتل، لأن ورقة الحماية الدولية ستكون لصالح أعداء ثورة 25 يناير داخليا وإقليميا، ومن يظن أنه سيهدد أو يخوف المصريين بهذه الورقة فهو الخاسر. ستتحدد أكثر مواقع الأحزاب العتيقة والجماعات الدينية المترهلة واصطفافاتها التآمرية المثيرة للشكوك. من الواضح أن الأمور ستصبح أبشع مما نتصور بفضل أداء المجلس العسكري وإصرار المنظومة الإدارية المصرية المترهلة والرجعية (وبالذات في الإعلام والثقافة) على أدائها المعادي لأبناء 25 يناير. ولكن لا عزاء، فالستة أشهر الماضية جاءت لصالح المصريين وثورتهم. لا عزاء أيضا لكارهي الثورة داخليا وإقليميا ودوليا وتقدم مصر وازدهار شعبها.