فعلاً، لم أكن أنتوي ممارسة هواية "الاستئساد" على الرئيس السابق حسني مبارك أو أحد من أفراد أسرته، احتراماً لنفسي أولاً، إذ لم يُسمح لي بمجرد انتقاده كتابة أو مشافهة وقت أن كان متربعاً على عرش مصر، أو بالأحرى لم أملك الشجاعة الكافية -حينها - لفعل ذلك، وثانياً لأنه الآن رجل طاعن في السن يدفع ثمن خطاياه التي اقترفها في حق وطنه على مدار سنوات حكمه الثلاثين، وهذا - من وجهة نظري - يكفيه. ولم أكن أنتوي أيضاً أن أصفه ب"الرئيس المخلوع" أو أعتبر فترة حكمه "عهداً بائداً"، ليس لأنه لا يستأهل، ولكن لقناعة داخلية لدي أنني وغيري من ملايين المصريين نتحمل الجزء الأكبر من مسؤولية ما آلت إليه الأوضاع في وطننا على يد مبارك وعصابته، إذ تأخرت الثورة على سياساته وبطش نظامه سنوات وسنوات. لم أكن أنتوي أن أمارس فعل الانتقام من مبارك، رغم أنني أعتبر نفسي بل وكل جيلي الذي ولد وتربى وتعلم وتزوج وأنجب في عهده أهم ضحاياه، فلا نحن تعلمنا وتربينا كما يجب، ولا حققنا أحلامنا كما يجب، وحتى بعضنا لم يتزوج كما يجب، ولا أنجب كما يجب. لم أكن أنتوي ممارسة فعل الانتقام والتشفي حتى بالكتابة، ليقيني أن مبارك وزمنه ورموز عهده صفحة سوداء طويت من تاريخ مصر العريقة.. مجرد صفحة لن يقف التاريخ أمامها، إلا باعتبارها "فترة اضمحلال" عانت فيها البلاد، كما عانت في فترات مثيلة متقطعة خلال السبعة آلاف سنة التي تمكن المؤرخون من تسجيلها. لم أكن أنتوي الانتقام، ليس فقط لقناعتي أنه لا وقت الآن إلا لإعادة البناء، ولكن ليقيني أن العدالة ستأخذ مجراها، وأن مبارك سيحظى عاجلاً أم آجلاً بمحاكمة عادلة، لم يوفرها هو لخصومه السياسيين في فترة حكمه، رغم كل محاولات التسويف والتباطؤ، وتصوير أمر إخضاعه للتحقيق والمحاكمة على أنه "إهانة لمصر" أو "إهانة للمؤسسة العسكرية" أو "إهانة لدول عربية" يمتلك مبارك علاقات وثيقة مع قادتها، بناها –للأسف - في أحيان كثيرة على حساب مصلحة الوطن وشعبه. لم أكن أنتوي... إلى أن سمعت كلمته المسجلة التي انفردت بها - بشكل غامض - قناة "العربية"، وخصوصاً المقطع الذي قال فيه "وبناء عليه وبعد انتهاء الجهات المعنية من هذا والتأكد من سلامته وصحته (يقصد براءته من تهم الفساد والتربح واستغلال النفوذ والإضرار بالمال العام) فإنني أحتفظ بكافة حقوقي القانونية تجاه كل من تعمد النيل مني ومن سمعتي ومن سمعة أسرتي بالداخل وبالخارج". إذاً مازال مبارك يهدد ويتوعد، ويمارس غطرسته وتعاليه على خلق الله، فليس هو ذلك الرجل "المنكسر" المقعد الطاعن في السن الذي يلعق بألم الثمار المريرة التي جناها مما زرعه خلال سنوات حكمه. يهدد ويتوعد منتقديه بالملاحقة القانونية، من دون كلمة اعتذار واحدة على ما اقترفه - بقصد أو من دون قصد - في حق ملايين المصريين -بالداخل والخارج - طوال 30 عاماً. ما استفزني وأدهشني حقاً قوله "هذا وسيتضح من الإجراءات المعمول بها أن عناصر ومصادر أرصدة وممتلكات أبنائي علاء وجمال بعيدة عن شبهة استغلال النفوذ أو التربح بصورة غير مشروعة أو غير قانونية". وهنا "مربط الفرس". لماذا لم يخبرنا مبارك عن مصدر ثروة نجليه علاء وجمال؟ وما هو عملهما تحديداً، وما هي وظيفتهما المدونة في بطاقة الرقم القومي؟ رجل أعمال، صح؟ إذ كان أغلب رجال الأعمال الذين ارتبطوا بالسلطة في عهد مبارك - من أكبرهم إلى أصغرهم - قد تكسبوا من وراء النظام، فما هو الحال مع نجلي رأس الدولة؟ بعيداً عن الكلام المرسل، وبعيداً أيضاً عن ثروة علاء مبارك التي تحوم حولها شبهات كثيرة، وبما أنني لفترة طويلة كنت مهتماً بالبحث في ملف جمال مبارك، بحكم عملي الصحفي الذي أتاح لي احتكاكاً مباشراً به، ولكونه كان وريثاً محتملاً لعرش مصر، فإنني أتساءل: من أين حصل الشاب "جمال الدين محمد حسني سيد مبارك" على الأموال التي أسس بها شركة "ميد انفست المحدودة" والتي تتخذ من الجناح رقم 4 في البناية رقم 186 بشارع "صلون" (SLOANE) في العاصمة البريطانية لندن مقراً لها. والشركة أسسها مبارك الابن في 22 أبريل 1996، أي وهو في الثالثة والثلاثين من عمره، وتعمل في نشاط الاستثمار المباشر في قطاعات النفط والغاز والصلب والإسمنت والمواد الغذائية والثروة الحيوانية. هل حصل جمال على هذه الأموال كمصروف جيب؟ أم أنه ادخرها من سنوات عمله بعد تخرجه في الجامعة الأمريكية - قسم إدارة الأعمال، كموظف في "بنك أوف أمريكا" بفرعه في القاهرة قبل أن ينتقل لاحقاً إلى لندن؟ هل هي مدخراته، أم أن الأب ساعد ابنه على تأسيس "البيزنس" الخاص به، كما يفعل أغلب الآباء، أم هي أموال العائلة يدير جزءاً منها الابن الأصغر الذي تحول إلى خبير اقتصادي بعد حصوله على درجة الماجستير في إدارة الأعمال أثناء عمله المصرفي لسنوات في واحدة من أكثر الأنشطة ربحية وهي "بنوك الاستثمار" (INVESTMENT BANKING)؟ إذا كان مبارك الابن لم يستغل نفوذ والده، فلماذا لا يخبرنا أحد أين أمضى جمال فترة الخدمة العسكرية الإجبارية عقب تخرجه في الجامعة؟ لماذا لم يقضها في واحد من المعسكرات النائية كما يفعل أغلبية الشباب المصريين؟ لماذا قضاها كأخيه بين جنبات القصر الرئاسي، على اعتباره مجنداً في الحرس الجمهوري؟ قد يجادل البعض أن اعتبارات أمن ابن الرئيس تتطلب ذلك، وهنا نقول: لماذا لم تمنع هذه الاعتبارات حفيد ملكة بريطانيا من الخدمة في أفغانستان؟ إذا كان جمال لم يستغل منصب والده فلماذا تم تعيينه عضواً في مجلس إدارة "البنك العربي الإفريقي" كأحد ممثلي "البنك المركزي المصري"، مع كل من حسن عبدالله، الرئيس التنفيذي للبنك الذي تم تعيينه في 2004 رئيساً للجنة الاقتصادية بالحزب الوطني، ومحمود عبدالعزيز، مستشار محافظ "المركزي"، وهالة السعيد، مدير "المعهد المصرفي" التابع ل"المركزي"؟ علماً بأن "العربي الإفريقي" مملوك مناصفة بين الحكومتين المصرية والكويتية. قد يقول البعض "ما المشكلة في ذلك، فإذا كان جمال كفاءة مصرفية كبيرة لا بد أن نستفيد منها ونتباهى بها أمام شركائنا الكويتيين في البنك؟". المشكلة هي أن جمال لم يكن يحضر الاجتماعات إلا نادراً، وكان يحصل على كل بدلات وامتيازات ومكافآت أعضاء المجلس بالكامل، كما هو ثابت في محاضر مجلس الإدارة التي يمكن الرجوع إليها لمن يرغب، إضافة إلى ذلك، ألا يوجد هناك تعارض في هذا المنصب "الحكومي" أو "شبه الحكومي" أو الذي يمثل "الحكومة" مع كون مبارك الابن رجل أعمال يمتلك شركة خاصة، لها تعاملات في السوق المصرية والبورصة، بل وتنافس الصناديق الاستثمارية التي تديرها نظيرتها التابعة لبنوك محلية؟ إذا كان جمال لم يستغل وضعه كنجل لرئيس الجمهورية، لماذا كان يحضر اجتماعات "رؤساء مجلس الدولة" كما كشف - عن غير قصد - فتحي سرور رئيس مجلس الشعب المنحل، كتفاً بكتف مع رئيس مجلس الوزراء، ورئيسي الشعب والشورى، والدستورية العليا، ومجلس الدولة، ومحكمة النقض، ووزيري الدفاع والداخلية وغيرهم؟ ألم يكن حضوره هذه الاجتماعات يتيح له الاطلاع على أدق أسرار الدولة وخططها الاقتصادية التي قد تمكن شركته من التربح، خصوصاً أنها "مهتمة" بالبورصة المصرية؟ ولهذا حديث آخر.