تتواصل المظاهرات في ميدان التحرير أم تتوقف .. يسقط أحمد شفيق أم يبقى .. نسرع في ترقيع الدستور وتعديل المواد الخاصة بالإنتخابات أم نتريث لنغير الدستور كاملا ونبدأ الإنتخابات "على نظافة" حتى لو ضحينا بتأخيرها شهورا أو سنوات وهل ننتخب مجلس الشعب ليقوم بتغيير الدستور أم نغير الدستور لننتخب المجلس "على نور" أم ننتخب الرئيس وينتظر المجلس النيابي حتى يتم تغيير الدستور "على هداوة" .. جدل يشبه البحث عن معادلة البيضة أولا أم الدجاجة وهو جدل صحي ومقبول ورائع لولا أن عقارب الساعة تداهمنا فالوقت الذي يتسرب من بين أيدينا يضيع ونحن ندور حول وجهات نظر متباينة مع هذا الرأي أو ذاك وكلها وجهات نظر محترمة وتحمل من المنطق ما يجعلها قادرة على أن نظل شهورا وسنوات نقلب فيها دون أن يحصل أي منها على إجماع أو حتى أغلبية ساحقة .. فقد حصلت المطالب الرئيسية الأكثر شعبية على حظها من الإجماع الشعبي مثل رحيل الرئيس وحل مجلسي الشعب والشورى وغيرها .. فكلنا متفقون على ضرورة هدم النظام القديم ولكننا مختلفون ومن الطبيعي أن نختلف على خطوات بنائه أتمنى أن يسرع الشارع في حسم أولوياته في المرحلة القادمة لأن هذا الجدل الذي يركز على تفاصيل التفاصيل يمكن يؤدي إلى السيناريوهات الأسوأ للثورة المصرية ويقضي على أهم ما حققته وما ننتظر منها أن تحققه وأول الأولويات في الوقت الحالي هي ضرورة إنهاء هذا الوضع الإنتقالي الحرج الذي نعيش فيه .. ضرورة أن نحتكم سريعا لصناديق الإنتخابات ونعمل على أن تحقق القوات المسلحة وعدها بتسليم السلطة إلى برلمان ورئيس منتخب في خلال الأشهر الستة المقبلة .. وأن نثق في وعي الشارع وقدرته على الإختيار وقدرته فيما بعد على محاسبة نوابه المنتخبين ورئيسه المنتخب .. معارضو هذا الرأي والذين يطالبون بضرورة التريث يقولون أن الإسراع في الإنتخابات سوف يكون فقط في مصلحة القوتين الأكثر تنظيما وهما الإخوان المسلمين وفلول الحزب الوطني الذين سينخرطون في تشكيلات حزبية جديدة تحمل أسماء أخرى ولكنها تضم نفس الوجوه الفاسدة والمفسدة التي هيمنت على الحياة السياسية بالتزوير والمصالح القبلية واستغلال المناصب والنفوذ وبهذا يعتبر أصحاب هذا الرأي أن التسرع في إجراء الإنتخابات يمكن أن يؤدي إلى السيناريوهات الثلاثة الأسوأ (من وجهة نظرهم) وهو إما سيطرة الإخوان على المجلس القادم .. أو سيطرة فلول الحزب الوطني أو سيطرة أحزاب المعارضة التقليدية التي كانت مجرد خيالات مآتة كرتونية في تمثيلية الديمقراطية التي عاشها المسرح السياسي في مصر ثلاثين عاما .. والواقع أن هذه السيناريوهات الثلاثة تتبنى وجهات نظر مرفوضة قالها من قبل أحمد نظيف رئيس الوزراء السابق وعمر سليمان نائب الرئيس السابق بطرق مختلفة وهي وجهة النظر التي تقول أن الشعب المصري غير مؤهل للديمقراطية .. وتغفل هذه السيناريوهات حالة الوعي والتوحد والقدرة على الحشد التي مارسها مفجرو ثورة 25 يناير من الشباب والكهول .. وتغفل أن الإنتخابات القادمة إذا جرت في إطار من النزاهة والشفافية سوف تحمل إلى الصناديق ملايين من الأصوات الجديدةالشابة الواعية التي لم تذهب يوما إلى الإنتخابات من قبل وسوف تكون هي الكتلة التصويتية الأكبر التي يفترض أن تقلب الموازين التقليدية المرتبطة بالتحالفات القبلية والعائلية .. هذه التحالفات المنتشرة في المناطق الريفية خاصة في الصعيد والتي كان الحزب الوطني يستخدمها لمصلحته .. سوف يبقى للنفوذ والمال والقبلية دور بالتأكيد ولكنه سيكون دورا محدودا قليل التأثير في ظل حالة الوعي الشابة التي تحكم الشارع المصري حاليا والتي تنفر بشدة من رموز الحزب الوطني وكل ما يمت له بصلة وتتحفظ على من يرفع شعارات دينية فجة أو حزبية ملوثة بالمعارضة الكارتونية التي كانت تحدث في السابق .. في رأيي أن هذه السيناريوهات الثلاثة مستبعدة إلى أقصى درجة .. ولكن حتى لو إفترضنا الأسوأ .. وأن أحد هذه السيناريوهات قد يتحقق إذا ما تم الإسراع في إجراء الإنتخابات خلال الشهور الستة المقبلة .. حتى لو إفترضنا هذا الطرح المتشائم .. فإن هذه السيناريوهات الثلاثة قد تكون مقبولة في مواجهة السيناريو الأسوأ على الإطلاق .. وهو أن يؤدي التأخر في إجراء الإنتخابات وتسليم السلطة إلى مؤسسات رئاسية وبرلمانية منتخبة إلى أن تذهب البلاد إلى حقبة جديدة من الحكم العسكري فرغم أن القوات المسلحة المصرية تصرفت منذ اللحظة الأولى بمنتهى الشفافية والنزاهة والإحترام .. والتزم المجلس العسكري الأعلى بأنه سينقل السلطة إلى المؤسسات المدنية المنتخبة خلال ستة أشهر .. إلا أن وجود أصوات متعددة ومتضاربة داخل المجتمع المدني منها أصوات تطالب القوات المسلحة بالبقاء مدة أطول وتطالب بتأخير تسليم السلطة حتى يتم تغيير الدستور بالكامل أو تكوين أحزاب وتفعيلها .. هذه الأصوات لعلها تدرك أو لا تدرك أن هذه الإصلاحات السياسية الشاملة والجذرية تحتاج إلى وقت طويل وحوار مجتمعي واسع للإجابة عن تساؤلات عديدة وبعضها تساؤلات ملغومة .. وبقاء القوات المسلحة على قمة السلطة لوقت طويل في مثل هذه الظروف يمكن أن يعيد التاريخ القريب عندما قامت حركة الجيش عام 1952 وقتها لم يطلق أصحابها عليها أسم ثورة وجاء بيانها رقم واحد مثاليا ونبيلا يتحدث عن إقامة حياة ديمقراطية سليمة ومحاربة الفساد ومبادئ أخرى رائعة .. ولكن وبمرور الوقت توارت هذه المبادئ شيئا فشيئا وأحكم الضباط الأحرار قبضتهم على السلطة لتدخل مصر طوال ستين عاما في أنظمة حكم هي أبعد ما تكون عن الديمقراطية كثير من المؤرخين المنصفين لم يشككوا يوما في نوايا الضباط الأحرار النبيلة عام 1952 ولكن النوايا الطيبة لا تصنع حكما صالحا .. والمشكلة أن دخول الجيش في السياسة يفسد الجيش والسياسة معا .. ولعل هذا هو الذي نلمسه من قيادات المجلس العسكري الحاكم في مصر حاليا وهم يمسكون بالسلطة وكأنهم يقبضون على الجمر مدركين لحجم المسؤولية ومؤكدين في كل فرصة على أنهم مجرد أمناء على مصالح الشعب ومطالبه العادلة في الديمقراطية وأنهم لا يطمعون في سلطة .. وتبدو الخطوات العملية للمجلس العسكري متسارعة نحو تسليم السلطة السياسية لمؤسسات منتخبة في أسرع فرصة مقبلة .. والغريب أن بعض القوى السياسية المدنية هي التي تطلب من الجيش أن يستمر في السلطة لفترات إضافية وهي التي تحاول جر الجيش إلى ميدان السياسة وتطلب منه أن يتم تأجيل الإنتخابات حتى تستعد الأحزاب أكثر وألا يكتفي فقط بتعديل بضعة مواد من الدستور وإنما يجب تغيير الدستور بالكامل قبل أي عملية إنتخابية كل هذا التلكؤ الذي تحاول العديد من القوى السياسية المدنية أن تفرضه على الجيش يمكن أن يؤدي إلى السيناريو الأسوأ للثورة المصرية .. فالمجلس العسكري الذي تحركه دوافع وطنية مخلصة قد يجد نفسه مضطرا أن يستجيب لهذه المطالب لتمتد الفترة الإنتقالية وتتأخر عملية التسليم إلى مؤسسات منتخبة .. وفي يوم .. في شهر .. في سنة.. تتغير الأحوال والأوضاع .. ويتكرر ما حدث من قبل عام 1954 .. عندما دار الخلاف بين أعضاء المؤسسة العسكرية نفسها حول موضوع عودة الجيش إلى ثكناته أو استمراره في السلطة (وكان كل من الفريقين وقتها يبني موقفه على نوايا وطنية طيبة وإخلاص لمسؤوليته تجاه الشعب والوطن ) وإنتهى الأمر بغياب شمس الديمقراطية عن مصر لعشرات السنين والغريب أن الشارع وقتها (عام 1954) وقف مع الإتجاه الذي يرفض عودة الجيش إلى ثكناته بعد أن ضاق ذرعا بالأحزاب السياسية التقليدية التي غرقت في جدل سوفسطائي نخبوي حول عملية التطهير لا نتمنى أن تتكرر التجربة .. ولا نتمنى أن تجد القوات المسلحة نفسها أمام قوى سياسية مدنية غير ناضجة تتناحر على تفاصيل التفاصيل وتتشاجر على قضية البيضة والفرخة .. ومن المؤكد أن جولات الحوار الوطني التي عاشها المجلس العسكري مع مختلف أشكال الطيف السياسي المصري حملت قدرا من الصراع والصداع والجدل حول بيضة الحكومة وفرختها وبيضة الدستور وفرخته وبيضة الإنتخابات وفرختها .. وأسوأ ما يحدث أن تستيقظ هذه القوى السياسية المدنية ذات صباح لتجد أن الفرخة طارت والبيضة كسرت والشارع يوافق على ذلك بعد أن يشعر أن سفسطة السياسيين قد أضاعت الوقت الثمين وهزمت أحلامه البسيطة في الأمن والرخاء والديمقراطية