(1) لن أحكي عن الساعات الطويلة التي قضيتها لأفتتح هذه السطور . الأياد كلها كانت تتطهر في مغسلة الثورة ، لا وقت للنوم ، للقراءة ، للفلسفة ، سكت الكلام ، وتحدث صمود الثوار ، اختبارات الكتابة الحقيقية كانت في الميدان ، في مواجهة قنابل الغاز المسيلة للدموع ، والرصاص المطاطي ، والرصاص الحي . اختبارات كتابة حياة في مواجهة احتمالات موت يومي محقق . لن أتحدث كثيرا عن ذلك التعطل المؤقت لجهازي العصبي بعد إعلان الرئيس السابق حسني مبارك تنحيه . فسحقا لكل أجهزة الجسم إذا لم تتمكن من استنشاق لحظة تاريخية مثل هذه . لحظة فارقة في حياة عادية جدا ، يحياها هذه السطور . لن أستطرد في الحديث عن ذلك اللقاء الإنساني الحار بيني وبين أمي التي بكت على الجانب الآخر من الهاتف ابتهاجا برحيل الطاغية . ثم ، لن أفيض في وصف ماكانت عليه درجة سخونة دموع رفيقتي ، روضة أحمد ، التي فاضت عيناها بدموع هادرة ، حينما انتابتها ، وأنا ، حالة فرح هيستيرية في شوارع القاهرةوالجيزة . ليست هناك حتى مائة ألف كلمة رقيقة ، حانية ، توازي قيمة قطرة دم واحدة من دماء شهداء ثورتنا الذين عمدوا حرية 85 مليون مصري وملايين المضطهدين في كل الدنيا . ففي كل الأحول ، هي مجرد كلمات . ليست هناك تحية مكتوبة ستفي بحق أولئك الثوار في كل ميادين وشوارع مصر ، وبالأخص أولئك الثوار ، الذين كانوا يرجمون مجرمي نظام الرئيس السابق بالطوب في معركة الأربعاء الدامي في ميدان التحرير . لا أعرف اسم ذلك الثائر ، المعاق ، الذي كان يعتلى عربة بأربعة أرجل ، فيما كان يطلق مؤيدو الرئيس السابق ، الرصاص الحي الكثيف فوق رؤوسنا ، سخونة المعركة لم تتح لي تقبيل جبهته الحرة ، كان يعلق على صدره يا فطة ورقية تقول : ارحل ، يمكن أمشي ! ، كان يجر عربته وسط أكوام الحجارة ، حاملا فوق ركبتيه ، في كل مرة ، كيسا بلاستيكيا مثقلا بحجارة ، كان ينقله للثوار على خط النار ، كان يهتف في الجنود الثوار : الله أكبر . تقدموا . الجبناء يتراجعون . كان كله ندم وأسف لأنه لا يستطع قذف الظالمين بحجر ، وأبى أن لا يقدم دعما لوجيستيا رائعا للمقاتلين . لم أدون رقم هاتف ، أو عنوان ذلك الطفل الثوري ، ست سنوات ، الذي كان يقذف في أحد شوارع إمبابة ، كما قناص محترف ، قوات شرطة مبارك المخلوع ، فيتراجعون . لا أجزم أنني استطيع التعرف على ملامح ، تلاميذ المدارس ، الذين رفعوا ، منتصرين ، علما مصريا كبيرا ، فوق أسطح إحدى عمارات الجيزة ، والرصاص المطاطي يلاحقهم ، في جمعة الغضب ، بعد هروب ميليشات الشرطة . ليست هناك كاميرا في العالم استطاعت أن تنقل دراما المقاومة الباسلة على الخط الأمامي في معركة المتحف ، لا يمكن لأعظم روائيي الدنيا ورساميها ، أن ينقلوا بأقلامهم أو خطوطهم ، صورا دقيقة لمشاهد الصمود الاستثنائي الذي كان . آلاف المقالات والكتب سوف تكتب عن ثورة 25 يناير لكن آلاف المشاهد والحقائق ستسقط من ذاكرة من يكتبون ، لأن فصول الأسطورة تقع دائما بين دفتي الحقيقة والخيال . وها أنا الآن ، أكتب هذه السطور ، محاصرا ، بين جبهتين ، الأولى للحقيقة ، والثانية تلبس قميص الهيستيريا . !
(2) لا يجب بحال من الأحوال ، أن نغادر ميدان التحرير ، واي ميدان آخر ، لا جيب أن نلقي سلاح الشارع من أيادينا ، المعركة لم تنته ، المعركة بدأت ، فالفرحة العارمة بتنحي الطاغية مبارك ، وهو مكسب تاريخي لثورتنا الشعبية ، لا يجب أن تعمينا ، ثوار ، ونشطاء سياسيين ، ومواطنين ، عن ضرورة التوحد في جبهة واحدة ، لاستكمال باقي مطالب الثورة ، والتي على رأسها إلغاء الخصخصة ، وتأميم كل الشركات ، واستعادة أموال مصر المنهوبة والغاء قانون الطوارىء والإفراج عن كافة المعتقلين السياسيين ، وتشكيل حكومة انتقالية وطنية موسعة ، وإطلاق الحريات كلها ، وحل مجلسي الشعب والشورى ، وتطهير البلاد من كل روائح نظام الرئيس المخلوع ، فهذه مهمة أولى عاجلة . المهمة الثانية ، هي أن نعد كل أسلحتنا وتكتيكاتنا ، لمواجهة ما يحتمه التاريخ ، ويسميه بالثورة المضادة ، فمقابل صعود نجم ثورتنا المجيدة ، سيلوح في الفضاء ، خلال ساعات قليلة ، نجم الثورة المضادة ، لإطفاء وهجه ، بزعم الانتقال بالتدريج للحالة الديمقراطية ، ولزومية العودة للبيوت ، هناك تشابكات كثيرة لداخل وخارج ، يريد تعطيل عجلة الثورة ، وتقليم أظافرها ، لتنتهي لمسار اصلاحي ، لا جذري ، كما تبتغي الجماهير الثائرة ، لا بد من المواجهة الحاسمة مع أولئك الصفر القادمين ، ذيول النظام السابق ، الذين سيغيرون بذلاتهم الممرغة بخيانة ثورة الشعب ، ويرتدون بدلا منها " تي شيرت " مطبوعة عليه صورة جيفارا ، أو صور الشهداء ، هؤلاء المتلونون ، انتهى عيشهم بسقوط مبارك ، ويجب تطهيرهم ، من كل المؤسسات العامة والصحف والأحزاب والنقابات المهنية ، والمصانع والشركات ، والاتحادات ، وعلى رأسها اتحاد العمال الذي كان تابعا لجهاز أمن الدولة الفاشي ، وهذا لن يتأتى إلا بعمل لجان في كل المواقع لحماية الثورة . تضع على عاتقها تطهير مواقعها من ذيول نظام مبارك ، تمهيدا لمحاكمتهم ، ثم الاستيلاء على هذه المواقع وإدارتها لصالح الجماهير . ( 3 ) قول يا صاوي ويا بوعزيزي وبولس .. الجزائر هتحصل مصر وتونس