أنا لا أمزح ولا أكتب إفيهات... لكن هذا العنوان السابق كان جملة ضمن مونولوج أدرته مع نفسي عندما قرأت مقال صديقتي نجلاء بدير يوم الخميس الماضي 14 يناير في الدستور بعنوان «يا روح الأمة العربية»... كانت تتحدث بنوستالجيا مغلفة بالمرارة علي زمن جمال عبدالناصر أو هكذا شعرت من كلامها وتداعياتها لصورة عبد الناصر وكما قالت إن حالة الحنين التي تنتابها بين حين وآخر لذلك الزمن ليس الفقر ولا الفساد ولا التطرف ولا الانهيار الاجتماعي ولا... ولا... ولكنه حلم العروبة والوحدة هو الذي يحرك داخلها مشاعر الحنين تلك، وبما أنني لم أعش فترة عبد الناصر ولكنني أحببته سمعاً وتأثرت به عن بعد لا معايشة للمرحلة ولا الزمن، فكان من الصعب أن أشعر بما تشعر به نجلاء بدير. والحقيقة أن الغيرة أصابتني وقلت في نفسي إن شعور الحنين إلي الماضي ضروري لكل إنسان لأنه ربما يخلق لديه وبداخله حالة من الرضا بأنه عاش هنا وهناك، عايش هذا الزمن وتمرد عليه وقارن بالماضي وتمني العودة له أو العكس... المهم أن الحنين إلي الماضي يعطيك إحساسًا بأنك «عايش»!! لذلك قررت أن أبحث عن زمن أحن إليه أو بمعني أدق أخذت أبحث عن معني وروح الحنين. تأملت في أيامي وزمني - لا أقصد أيام حياتي الخاصة - لكنني أقصد المرحلة التاريخية التي عشتها بما فيها من أحداث سياسية واجتماعية واقتصادية، فوجدت زمني وكأنه زمن ميت لم يتحرك ولم يتنفس إلا بالصدمات الكهربائية، حاولت ألا استسلم لفكرة أن زمننا خاوٍ، فوجدت العكس تماماً، وجدت أنني أعيش زمناً مربكاً، زمناً أخاف علي ابني منه، وفي هذه اللحظة سألت نفسي: «هل كانت نجلاء بدير وجيلها يخاف علي أولادهم من الزمن الذي يعيشونه؟!». الزمن الذي أعيشه أنا وكثيرون من أبناء جيلي زمن رديء - هكذا أراه - بمنتهي الموضوعية، وقد يسرع شخص ما ويقول إن الزمن هذا شهد رموزًا إنسانية رائعة كيف تتجاهلينها وتعممين رداءة الزمن حتي مع وجود طاقات نور مثل فلان وفلان فلان.. تعمدت عدم ذكر أي منهم لا لإنكارهم والعياذ بالله ولكن إجلالاً لكل اسم ولكل مواطن ولكل شخصية رائعة في هذا الزمن الرديء الذي طغي علي وجودهم وجعلهم إما يفرون إلي عوالمهم المعزولة أو إلي عوالمهم البديلة البعيدة عن هذا الوطن أو اختيار بعضهم أو القليل منهم للنضال والتحدي والمثابرة لدرجة أنهم بدوا وكأنهم «مهووسون» لأنهم ينفخون في إربة مقطوعة). فالزمن الذي لا يحتضن رموزه الإنسانية المضيئة ويعطيهم الدفة هو زمن رديء بلا جدال، الزمن الذي تعيشه ولا تفهمه هو زمن رديء، الزمن الذي يجبرك علي أن تعتاد فيه الفساد والظلم والقهر وسلب الحقوق وبشكل علني، هو بلا نقاش زمن رديء، الزمن الذي يجبرك أن تبدأ فيه الحديث عن المفاهيم البدائية مثل حق التعليم والحرية والمساواة والديمقراطية والمواطنة وحقوق الإنسان وكرامة المواطن والتنوير والانفتاح الثقافي وجمال السينما وروعة الأدب وضرورة احترام المعاق والطفل والمسن.... عندما نعيش في زمن لم يتفق فيه العموم علي هذه المبادئ والقيم والمفاهيم - التي اعتبرها بديهية - هو زمن رديء علي الأقل بالنسبة لي. أخذت أفتش في هذا الزمان المتوسط (الخمسة وثلاثين عاماً) الذي عشته عن مرحلة للحنين، فوجدتني عشت 29 عاماً منهم (حتي الآن) في زمن واحد يحكمه رئيس واحد، أسمع فيه نفس الخطب والبيانات والوعود، نفس الأداء العام لإدارة هذا الوطن، بإضافة أنه أداء يزداد رداءة عام بعد عام، وهي بالفعل مدة زمنية كافية لتجميد أي شعور بالحنين، وقلت في نفسي «الشعور بالحنين يلزمه بعض الاختلاف في أحداثه وشخوصه»، لذلك حاولت أن أقنع نفسي بأنني أحن قليلاً إلي أيام المدرسة أو إلي أيام الجامعة حيث كنا نبحث عن دور نؤديه وكأننا نقنع أنفسنا بأننا لنا كلمة ورأي وسلطة، كان الحماس يملأ قلوبنا فكنا نتظاهر بسبب حرب الخليج وضرب العراق، كنا نتظاهر من أجل اغتصاب فتاة العتبة وكنا نقول «بعد العتبة والمعادي والداخلية قالت عادي»!!، ومرت الأيام والاشتراك في المسيرات زاد في منحني تصاعدي ثم أخذ يقل تدريجياً - لأسباب عديدة تستحق أن أفتش عنها جيداً وأشارككم إياها يوماً ما. المهم أن مقال «نوجة» - واسمها الحركي بالنسبة لأصدقائها هو نجلاء بدير - جعلني أقدح زناد فكري وأتخيل. إجابتي إذا سئلت بعد عشرة أعوام مثلاً: «إلي أي زمن تشعرين بالحنين؟! أي زمن تريدين عودته؟ سؤال صعب ومحرج وملئ بالمرارة لأنني بالطبع «لااشعر بالحنين إلي الزمن الرديء الذي تمنيت فيه لابني ألا يعيش زمناً مثله، تمنيت له أن يعيش مرحلة زمنية لا يكون الفساد سيدها ولا تكون الرداءة قانونها الحاكم المعلن ولا أن تكون مرحلة تجبره علي أن تتجمد مشاعره فلا يحلم ولا يحن... فقط يعتاد الرديء ويتوقعه والعياذ بالله». كما قلت: لم أكن أمزح ولا أقول إفيهات ولكن عندما قرأت عمود نجلاء بدير، قلت في نفسي: أنا عمري ما ح أقول للزمان أرجع يا زمان.. بالعكس أنا ح أبوس إيده إنه ما يرجعش!!