لن أنسي هذا اليوم لفترة طويلة، رغم أن أي أحداث عظيمة أو غريبة لم تحدث فيه سواء لشخصي أو علي مستوي المجتمع ككل، صباح عادي كل الجديد فيه أنه صباح عيد الأضحي، كنت وأصدقائي قد قضينا ليلة الوقفة في شقة العجمي كعادتنا منذ عدة أعياد، انتهت سهرتنا بانتهاء الليل الذي أعلنه بزوغ الفجر ومعافرة الشمس للظهور رغم السحب المتكاثفة في السماء، لملمنا حاجاتنا بسرعة زادت مع هطول أمطار غزيرة، أحكمنا إغلاق منافذ الشقة قبل أن ننزل لنتوزع علي السيارات في طريق عودتنا لقلب الإسكندرية لنلحق بصلاة العيد كل مع أهله، في طريق خروجنا من العجمي كان الناس قد بدأوا في النزول بدورهم للصلاة في الساحات والمساجد، قبل زمن حين كنت أنزل كفرد من عائلتنا الصغيرة لنفس السبب كنت أنتشي فرحاً وأتمايل طرباً وأقفز مرحاً من بهجة العيد، هذا من زمن، أما في هذا اليوم فكل ما شاهدته في الطريق كان هو اللون الأسود الذي أغرقني وأغرق روحي بسواد شديد وكآبة، بحر كامل من السيدات الأمهات والبنات والصبايا، كلهن كلهن متشحات بالسواد، لا ليس حداداً علي فقيد، بل لأن الزي الرسمي في هذا الزمن «اللي مش باينله وش من قفا» أصبح «العباية السودا». نعم كل السيدات - أو تقريباً معظمهن حتي لا أتهم بالمبالغة - كانوا في عرض عبايات كبير، عبايات ليس لها طعم ولا شكل ولا منظر، عبايات تزهو بأسودها - الذي هو ليس لوناًِ في حد ذاته وإن كان أيضاً هو ملك الألوان - وتتنافس جميعها في غياب التفاصيل، خيمة - لن أرفض أن تستبدل الميم بالباء - سوداء ليس فيها ذوق وليس لها معني ولا مفهوم، وإن كانت بعضها تحاول التمرد علي سطوة الأسود بزخارف من الترتر اللامع فتبدوا أكثر جهلاً وغباءاً من العباءات الأخري خاصة وإن كانت مزينة بكلمة إنجليزية لامعة. أزمتي الخاصة مع العبايات أنها لا تعبر عن شيء، ليست من تراثنا ولا من أرضنا، لا معني لها ولا قيمة - ستقتنع أكثر بذلك حين تقابل أي فتاة ليل محترمة في جامعة الدول ترفل في عباءتها السوداء التي تجتذب الإخوة إياهم - ولا تملك من الرقي شيئاً تعلن به عن نفسها، وقبل أن تتهمني وتنعتني بالزنديق الذي يفضل أن تسير كل النساء عرايا دعني أخبرك أن أمي وربما أمك وكثيرات أعرفهن محجبات - حجاب من اللي بحق وحقيق - بشياكة وذوق ورقي وألوان تبهج النفس، ولا تقل لي إنها ألوان تثير الغرائز فلست أعرف كيف سيثير الأزرق مثلاً أو الأخضر أو حتي الأحمر غريزة ما بداخلي، وما هذه الغريزة أصلاً. نحن شعب له ذوق وعنده وعي - أو كان عنده - وإحساس بالجمال بدرجة ما حتي وإن تفاوتت الدرجات، ولكن هذه العبايات لم تكن أبداً مننا ولا من تراثنا ولا من أزيائنا. دعني أذكرك أني لم أتحدث عن المدعوق الإسدال ولم أفتح باب النقاش في أن كثيراً من كاشفات شعورهن - أيوه يا سيدي السافرات - يملكن من الأدب والأخلاق والدين - نعم الدين - ما تفتقده غيرهن من أرباب العبايات، ولكن ليكن لهذا حديث آخر. النصف الثاني من المجتمع المتخربأ قبل أن تتهمني بالتحريض علي السفور والفجور وقلة الأدب انتظر قليلاً وتمهل فربما يعجبك النصف الثاني وربما لا يعجبك فتضيف لقائمة الاتهامات تهمة الانفصام أو التناقض مع النفس. حين أعلن سيادة وزير التعليم العالي قراره بمنع دخول المنتقبات للمدن الجامعية أو دخولهن لجان الامتحانات وكأنه بهذا حارب التزمت والتطرف والإرهاب ووأد الفتن في مهدها، اقتنعت أن أمامنا الكثير حتي نصل إلي الحضارة الحقيقية وينهض هذا الشعب من تحت العديد من المراتب والألحفة الرابضة فوقه في سرير الوطن المليء بالبراغيث، فالرجل المسئول عن وضع خطط يرتقي بها التعليم العالي - أو المفترض أن يكون عالياً - في هذا البلد لم يحاول إيجاد طريقة لتفتيح عقول البنات والشباب وإزاحة الغشاوة والغباوة من علي عقولهم سوي بمنع النقاب، لا فكر في تطوير المناهج ولا إيجاد تعليم حقيقي ولا حارب الكوسة ولا منحهم أماكن دراسة آدمية ولا رحمهم من سطوة دكاترة أحياناً ما يعتقد بعضهم أن السادية هي عنوان النجاح، لا لم يفعل شيئاً من هذا، بل منع المنتقبات من دخول أماكنه الحصينة خوفاً من أن يقوموا بنشر العدوي، وترك بعضهن أمام المدينة الجامعية في الشارع لأيام وكأنهن لسن بناتا ولسن بناته هو شخصياً، كل هذا لأنهم لم يتنازلوا عن زيهم، وضع نفسه في مواجهتهن، عمل عقله بعقلهن ووقف معهن علي مستوي فكري واحد وأصبح نداً لهن. وقتها كنت متأكداً أن العقلية المصرية العفريتة لن تقف أمام هذا القرار بل ستتمرد عليه وتتحايل علي واضعيه وتفعل ما تشاء وترتدي ما تحب وتذهب أينما تريد، بالطبع ليس هم من افتعلوا حكاية إنفلونزا الخنازير وتداعياتها، ولكنهم وجدوا ضالتهم فيها حين كانت الكمامات هي وسيلتهن الوحيدة لاستكمال النقاب الشرعي - من وجهة نظرهن - مع عدم الإخلال بالنظام المفروض عليهن من سيادة الوزير. الجميل أنه بعد أول يوم امتحانات، خرج إلينا وعلينا رئيس إحدي الجامعات بقرار عبقري متفرد ومتألق ومتنيل بستين نيله علي عينا، بأنه سيمنع الدخول بالكمامات في اللجان، قال إيه لأن مافيش حالات إنفلونزا خنازير في الجامعة أصلاً، وقتها تمنيت أن أسأل سيادته هو خد التاميفلو ولا لسه؟! لست مع النقاب، بس اللي عايزه تلبس نقاب تلبس، أو الأسهل نعمل يونيفورم للجامعة كمان ونلبس الجامعيين مريلة من أم زراير من ورا، ياسيدي طيب اللي بتلبس من غير هدوم مش بتقولها استري نفسك ليه، واللي بيسقط البنطلون مش بترفعهوله ليه، يا أستاذي أنت تمنع دخول النقاب والكمامة بيتك، مكتبك أو حتي شارعكم، إنما جامعة بحالها... وعايزني أكسبها.. الله يرحمك يا مليجي، وربنا ينفخ ف صورة ولادك يا مصر.