من حق المنتحرين علينا أن نقرأ رسائلهم ونعرف ظروفهم لنعذرهم ونسأل الله لهم الرحمة لكي ننقذ المعرضين للانتحار رسالة من منتحر ضاقت الدنيا في وجهه وتألم وتعذب وصرخ واستنجد فلم يعره أحد اهتماما فقتل نفسه الضغوط المادية والإجتماعية والنفسية على الناس وزيادة الفجوة الطبقية في المجتمع المصري رفعت نسب الانتحار في مصر الفجوة الطبقية زادت من نسب الانتحار كانت مصر حتى وقت قريب ضمن حزام الأمان في موضوع الإنتحار ذلك الحزام الذي يضم أيرلندا وأسبانيا وإيطاليا ومصر وبعض الدول العربية (ففي هذه الدول تكون نسبة الإنتحار أقل من 10 أشخاص لكل مائة ألف من السكان) , ولكن مما يلفت النظر أن نسب الإنتحار- المعلنة- في 2009م تساوي خمسة أضعاف ماكان عليه الحال في 2005 م , أي أن مصر تشهد موجة انتحارية نقلتها من حزام الأمان الإنتحاري إلى حزام الإنفجار , ومن الواجب والأمانة على كل متخصص في مجاله أن يحاول تفسير ما يحدث , ويقترح حلولا للأزمة تناقش على مستوى مجتمعي واسع للخروج من هذه الأزمة , خاصة إذا وضعنا في الإعتبار أن الأرقام الحقيقية للإنتحار لدينا تزيد بكثير عن الأرقام المعلنة . وقد زادت حالات الإنتحار حرقا بعد أحداث ثورة تونس والتي أشعلها انتحار محمد بوعزيزي حرقا ردا على معاناته من السلطة التونسية وإهاناته منها , ومن يومها ازدادت حالات الإنتحار ومحاولات الإنتحار حرقا في مصر وفي الجزائر وغيرها , وهذا يعرف بانتحار التقليد , أي أن محمد بوعزيزي أصبح نموذجا للمحبطين والغاضبين يفعلون مثله أملا في الخروج من يأسهم أو الحصول على حقوقهم , وربما يظن البعض خطئأ أن الإنتحار المدوي بهذه الطريقة يعتبر فعل بطولي يدفع بحركة التغيير أو يفجر ثورة اجتماعية على غرار ثورة تونس , خاصة بعد يأسهم من التغيير السلمي وتبادل السلطة والسيطرة على الفساد . وقبل الدخول في التفسيرات والتحليلات والمقترحات تعالوا نقرأ الظاهرة إحصائيا وإنسانيا , ونعني بإحصائيا الأرقام والنسب المتاحة من الدراسات المختلفة , أما إنسانيا فيعني تلك الرسائل التي نتلقاها كمجتمع من الذين غادروا دنيانا يأسا أو ضعفا أو إحباطا أو احتجاجا خاصة وأن كثير منهم قد حرص على ترك الرسالة إما بصورة مباشرة في شكل كلمات كتبها قبل موته أو بصورة رمزية في طريقة إنهاء حياته والظروف المحيطة بالحدث . القراءة الإحصائية أعلن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء أن هناك 104 آلاف محاولة انتحار بين بنات وشباب مصر خلال عام 2009. , وأكدت الإحصاءات أن أغلب من حاولوا الانتحار من الشباب في المرحلة العمرية من15 إلي25 عاما بنسبة تقدر ب66.6%، وأن هناك11 ألف حالة في مركز السموم انقسموا ما بين8500 أنثي "بنات وسيدات"، و2500 شاب من سكان القاهرة والجيزة نقلوا إلي مركز السموم بمستشفي الدمرداش مصابين بحالات التسمم الحاد إثر محاولتهم الانتحار بالمبيدات الحشرية أو المواد المخدرة خلال12 شهرا . ومما يؤكد تعاظم وانتشار الظاهرة أنه منذ 4 سنوات فقط وتحديدا عام2005 شهدت مصر1160 حالة انتحار ارتفعت إلى 2355 في عام2006، ثم إلى3700 حالة في عام2007، ليصل إلي4200 في عام 2008، ثم يكسر حاجز 5 آلاف منتحر في عام 2009 بمتوسط 14 حالة انتحار في مصر يوميا لنقارب أعلي معدلات الانتحار عالميا والتي تحتكرها الدول "الاسكندنافية"، ولكن الفارق أنهم هناك ينتحرون جراء الرفاهية المطلقة ونحن ننتحر هنا جراء الفقر المدقع والبطالة والغلاء الفاحش. هذه الأرقام المخيفة كشفت عنها أيضا دراسة صادرة من مركز المعلومات بمجلس الوزراء ضمن عدة دراسات عن جرائم الانتحار في مصر وأسبابها ومسبباتها. وتشير التقارير إلي أن محاولات الانتحار بين النساء أكثر منها بين الرجال، وفي الشباب "بنين وبنات" أكثر من الكبار، كما أن محاولات النساء دائما ما تتسم بعدم الجدية فى سياق متصل، أشارت إحصاءات منظمة الصحة العالمية لعام2010 أن نحو 3000 شخص ينتحرون يومياً على مستوى العالم ، وهناك لكل حالة انتحار 20 محاولة انتحار أو أكثر، ووفقا لإحصاءات المنظمة فإن نحو مليون شخص ينتحرون سنويا، وفي ال45 سنة الأخيرة قفزت معدلات الانتحار بنسبة60% في جميع أنحاء العالم , وقد كانت نسبة الانتحار في الماضي 60% فوق سن الخمسين , والآن غالبية المنتحرين أقل من سن أربعين , وحتى انتحار الأطفال الذين لم يتجاوز عمرهم 16 عاماً زاد 500% في السنوات العشر الأخيرة .
وقد كشف الدكتور جمال زهران في استجواب قدمه لمجلس الشعب عن انتحار 12 ألف شاب في مصر بسبب البطالة خلال 4 سنوات فقط . واتهم زهران الحكومة بالتلاعب في أرقام ونسب العاطلين عن العمل في مصر ل «تغطي علي فشلها»، وقال النائب إن «الأرقام التي تعلنها الحكومة في بياناتها المختلفة تصر علي أن نسبة العاطلين لا تتجاوز 9% بينما يكشف الجهاز المركزي للتعبئة والاحصاء عن نسبة 12%، وكشف صندوق النقد الدولي عن ارتفاع النسبة إلي 18%، فيما أكد البنك الدولي أن النسبة 22%، فيما أشارت منظمة العمل العربية إلي أن النسبة 23% وتوقع النائب أن تكون النسبة نحو 30%.وطالب النائب بسحب الثقة من الحكومة وإقالتها، وقال إن هذا التلاعب في الأرقام يأتي في إطار محاولة من الحكومة للتغطية علي فشلها في حل أزمة البطالة وأضاف بأن الحكومة تعمل لصالح خريجي المدارس والجامعات الأجنبية الذين يحتكرون الوظائف المميزة القراءة الإنسانية : ومن حق المنتحرين علينا أن نقرأ رسائلهم ونعرف ظروفهم لنعذرهم ونسأل الله لهم الرحمة , ولكي ننقذ المعرضين للإنتحار في الحاضر والمستقبل . ولقد توافر لدينا الكثير من الرسائل والقصص أعرض بعضها بإيجاز كي نفهم منها مباشرة ماذا حدث وكيف حدث ولماذا حدث ؟ وكيف يمكن أن لا يحدث؟ : • رسالة من منتحر ضاقت الدنيا في وجهه وتألم وتعذب , وصرخ واستنجد فلم يعره أحد اهتماما فقتل نفسه وترك الكلمات التالية : "أقر واعترف أني مؤمن وموحد بالله وأني ما لجأت إلي هذا الأسلوب في التخلص من حياتي إلا بعد أن ضاقت بي سبل العيش، واغلقت في وجهي كل أبواب النجاة من طوفان الديون المتراكمة وملاحقات الدائنين.. فما أنا إلا إنسان عاجز كسيح أمام طلبات صغاري وأهم احتياجات أسرتي.. سامحوني وادعوا الله أن يغفر لي ويرحمني ويقبلني ويحتسبني شهيدا من شهداء الذل والحاجة والفقر وقتيلا ساقه المسئولون الذين يصمون آذانهم في وطننا عن صرخات المطحونين إلي مقصلة الموت مرغما، مضطرا، أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله". * منتحر آخر كان الأول على دفعته في كلية الإقتصاد والعلوم السياسية , وتقدم لوظيفة بأحد الوزارات المرموقة , واجتاز كافة الإختبارات بنجاح , ولكنه لم يحصل على الوظيفة لكونه – حسب التقرير الصادر من إحدى الجهات – غير لائق اجتماعيا حيث أن أباه يعمل فلاحا . لم يتحمل هذا الشاب النابغ قسوة المجتمع وعنصريته فأنهى حياته غضبا واحتجاجا . • شاب لم يتعد عمره اثنين وثلاثين عاما؟ كان متزوجا ولديه ابنتان بالمدرسة عجز عن توفير الزي المدرسي لهما، وعن دفع مصروفاتهما بل عن اطعامهما، طرق كل السبل، عمل بكل المهن وحتي هذه المهن المتواضعة رفضته فلم يجد بين أصحابها مكانا، استدان حتي ظل دائنوه يلاحقونه ويطاردونه، بحث وبحث وبحث حتي يئس من الحياة التي أضحت بلا أمل، وآخر ما بحث عنه في جيوبه هو بضعة قروش لا تكفي لاحضار وجبة افطار لصغاره لم تصلح إلا لشراء 'سم فئران' تناوله ليتخلص من حياته وهمومه. • مهندس خسر أمواله في البورصة , وأحس باليأس ونظر حوله فلم يجد أحدا يأخذ بيده أو حتى يشعر بمعاناته , أصيب باكتئاب شديد ولم ينتبه إلى ذلك أحد , مكث ثلاثة أشهر لايريد أن يخرج أو يتحدث لأحد , وأخيرا قتل زوجته وابنه وابنته ببلطة وسكين مشرشرة ثم حاول أن يقتل نفسه ولكن الإعياء الذي أصابه لم يمكنه من ذلك , وحكم عليه بالإعدام فمات كمدا وحزنا قبل تنفيذ الحكم عليه . • شاب عمره 28 عاما , عثروا علي جثته تتدلي من سقف غرفته ومعها رسالة بخط يده كتبها قبل انتحاره.. تقول الرسالة: "أعتذر لكم.. سامحوني انني سببت لكم كل هذا الألم والحسرة.. لكني أؤكد أني لم أقدم علي خطوتي هذه إلا بعد أن انسدت كل سبل الحياة في وجهي، حيث فشلت في العثور علي عمل وطالما لم أجد عملا فهذا معناه انني لن استطيع الزواج من الفتاة التي أحببتها". • شاب عمره 25 سنة ألقي بنفسه أمام عجلات مترو الأنفاق بمحطة الدقي فأخرجه الناس من فوق القضبان عبارة عن أشلاء ممزقة . • كان مشنوقا بحبل ومعلقا بكوبري قصر النيل في مشهد روع كل من رآه في الحقيقة أو على صفحات الإنترنت , ووجدت معه رسالة تفيد فشله في زواج الفتاة التي أحبها بسبب ضيق ذات اليد . • أب ضاقت في وجهه سبل الحياة يترك رسالة بعنوان : "خلّوا بالكم من آيه" يقول فيها : "والله والله أنا مؤمن وموحد بالله لكني أقر وأعترف بأنني أخذت المبيد الحشري بارادتي يوم 5 مارس 2008 لأن ظروفي صعبة مالهاش حل خالص.. ما فيش حل.. خلوا بالكم من آية.. وأم آية". فهل سيوجد في مجتمعنا من لديه المروءة والرحمة ولديه الوقت والجهد والمال لكي يخلّي باله من آيه ؟ • كانت هذه آخر الكلمات التي نطقها ذلك الإنسان البالغ من العمر 39 سنة، وهو يلفظ آخر أنفاسه فوق فراش الموت بالمستشفي بعد تناوله المبيد الحشري احتجاجا علي غلاء المعيشة، وقد كتب في ورقة أرقام المبالغ التي اقترضها وأسماء دائنيه وكان قد حاول اخفاء ديونه علي زوجته كثيرا حتي انفلت الأمر من بين يديه، وسعي كثيرا للحصول علي أية وظيفة أو فرصة عمل إلا أنه لم يجد، اقترض واستدان ليحضر بعض البضائع البسيطة ويبيعها في الأسواق إلا أن الغلاء الفاحش في الاسعار حال دون قدرته علي سداد ديونه واطعام أسرته واستكمال تعليم ابنته ودفع الرسوم الدراسية لها. • وقد شهدت إحدى مدن الصعيد حادثا مأساويا عندما فوجئ المواطنون بسقوط شخص من الطابق الخامس بإحدي العمارات السكنية بمدينة السادات نتيجة خلافات مادية بينه وبين أسرة الفتاة التي عقد قرانه عليها وعجز عن استكمال نفقات الزواج فطالبوه بتطليقها فلم يجد أمامه سوي الانتحار. • وفي مدينة مغاغة ذبح مدرس زوجته وابنته وحاول قتل أبنائه الثلاثة وأشعل النار فيهم وفي نفسه بسبب الخلافات المالية بينه وبين زوجته . • كما شهدت محافظة الغربية حادث انتحار بمدينة طنطا عندما انتحر رجل يبلغ من العمر 42 سنة صاحب محل حلويات داخل غرفته ليلا لعجزه عن سداد ديونه، حيث اشتدت ضائقته المالية بسبب تدهور الأحوال الاقتصادية . • وفي نفس المحافظة انتحرت فتاة عمرها 22 سنة بتناولها أقراصا مهدئة تاركة والديها المسنين، حيث عجزت عن ايجاد فرصة عمل لاعالتهما. • وفي مدينة بورسعيد تلقت مديرية الأمن بلاغا من مستشفي بورسعيد العام بوصول جثة رجل يبلغ من العمر 58 سنة مصابا في رأسه والدماء تملأ ملابسه وبالبحث تبين أن وراء الحادث زوجته , 46 سنة وهي ابنة عمه وأن مشادة كلامية حدثت بينهما تطورت ووصلت لحد الاشتباك بالأيدي مما جعلها تدفعه بقوة فسقط صريعا، وعندما فوجئت بوفاته خافت فقررت أن تلحق به وألقت بنفسها من الدور الثالث، يبقي أن نقول إن سبب المشاجرة كان لقلة الدخل وعجز الزوج عن اطعام أسرته، حيث كان يعاني مرضا مزمنا أقعده عن العمل فاضطر لأن يعمل 'فراشا' إلا أن دخله كان قليلا لا يسد حاجته وحاجة أسرته . • شاب مفتول العضلات كان يعمل "بودي جارد" , احتضن طفلته البالغة من العمر 3 سنوات وألقى بنفسه – وهي معه – من الطابق السادس بشقة والد زوجته بسبب البطالة وبسبب رفض زوجته العودة إلى منزل الزوجية . • "آسف.. قررت الانتحار، فلم أستطع مواجهة الحياة أو تلبية مطالب أسرتي".. رسالة أخري كتبها موظف 36 سنة ووضعها فوق مكتبه، حيث كان يعمل فني صيانة بإحدى الشركات , وساءت حالتة النفسية مع الزيادة المرعبة في الأسعار فأحضر سلكا من الكابلات الكهربائية بالشركة، وصنع منه مشنقة وربطه في ماسورة الصرف الصحي التي تمر في مكتبه ثم انتحر. التفسير والتحليل : لقد زادت الضغوط المادية والإجتماعية والنفسية على الناس وزادت الفجوة الطبقية في المجتمع المصري , ففي الوقت الذي تتمدد المنتجعات ومناطق الفيلات والقصور يعيش 44% من الناس تحت خط الفقر , ويعيش ثلث الشعب في عشوائيات لاتصلح للإقامة الآدمية , ويعيش مليون شخص أو أكثر في المقابر , ويعيش ثلاثة أرباع مليون طفل في الشوارع , وهؤلاء الفقراء والمعدمين والمهمشين ينظرون حولهم ويحاولن الإستغاثة وطلب النجدة ولكن لا أحد يسمعهم أو يشعر بهم أو يستجيب لهم , فقد تعودت الحكومة على سماع الشكوى في كل وقت حتى فقدت حساسيتها لها تماما , أو أن الحكومة تتعامل مع أرقام لديها تفيد بأن الأمور كلها على مالا يرام , وأن الناس هي التي أصبحت أكثر طمعا وأكثر شراهة , وأقل صبرا وأقل شعورا بالرضى . وكان أمام هؤلاء الجياع بعض الحيل التي لجأوا إليها ومنها العمل الإضافي , أو الرشوة , أو دفع أبنائهم للسفر على مراكب متهالكة غرقت بهم على سواحل تركيا وإيطاليا واليونان , ثم قاموا بعمل وقفات احتجاجية واعتصامات لأيام طويلة انفضوا بعدها على وعد بتحسين أحوالهم التي لم تتحسن . واكتشف بعض الناشطين السياسيين أن المشكلة ليست فئوية وليست في زيادات ضئيلة لبعض المرتبات , وإنما المشكلة في الفساد المتفشي وفي سيطرة رجال الأعمال على مقادير الأمور في مصر مما يجعلهم يمتصون خيرات البلد ويضنون بها على هؤلاء الملايين الجوعى . ولذلك اندلعت بعض المظاهرات ونظمت بعض الوقفات هنا وهناك , ولكنها كانت في النهاية تنتهي بالفتك بقسوة بهؤلاء المحتجين . وانقسم المعارضون والمطالبون بالإصلاح وتم احتواؤهم بالترغيب أحيانا وبالترهيب أحيانا أخرى , والحصيلة النهائية هي تخلي الجميع عن الفقراء أو متاجرة الجميع بآلامهم . إذن فقد يأس الجوعى والمحتاجين والمهمشين من مخاطبة السلطة أو الشكوى لها أو مواجهتها أو الإحتجاج أمام دواوينها خاصة بعد أن أظهرت لهم السلطة عينها الحمراء وربما السوداء , لذلك سحبوا غضبهم وعنفهم الموجه نحو السلطة يأسا وخوفا وقهرا , وتوزع ذلك العنف في العلاقات البينية في المجتمع فازدادت الجرائم في الشوارع والبيوت وأصبح المصريون أكثر خشونة وقسوة , وحدثت جرائم قتل على أتفه الأسباب , وازدادت السرقة والبلطجة . وهذا ما يسمى بإزاحة العنف , أي تصريفه في اتجاه آخر غير الذي كان يجب أن يتوجه نحوه . ولكن هذه الوسيلة الدفاعية لم تكن كافية لتصريف كل طاقة الإحباط والغضب والعنف المخزونة في نفوس الناس الذين يعانون في كل يوم من صعوبات الحياة هم وأولادهم في الوقت الذي يجدون فيه مظاهر الثراء والترف والبذخ لدى طبقة امتلكت السلطة والثروة على حساب المساكين والمعدمين , لذلك اتجه المعدمون واليائسون والمحبطون بغضبهم وعدوانهم نحو أنفسهم في صورة محاولات انتحار أو انتحار كامل . وكما رأينا فإن أغلب الحالات المنتحرة تترك رسالة استغاثة وشكوى يائسة موجهة للمجتمع الذي لم يرحم هؤلاء الناس , وللدولة التي تخلت عن وظيفتها في رعايتهم وتركتهم لآليات السوق ولاتفاقات الجات ولتوجيهات صندوق النقد الدولي ولخطط البنك الدولي ولأطماع رجال الأعمال المسيطرين على المال والحكم . ويقول علماء النفس بأن الإنسان يختل توازنه ويفضل الموت على الحياة وتهون عليه نفسه ويهون عليه أولاده وكل شئ حين يصل إلى حالة اليأس وقلة الحيلة , وهذا ما تعكسه ظروف ورسائل المنتحرين التي استعرضناها . وإذا طبقنا هذه القاعدة على الشعب المصري في الظروف الراهنة فسنجد أعدادا كبيرة من الناس قد وصلت إلى هذه الحالة من اليأس وقلة الحيلة بسبب الفقر وانعدام العدل وبسبب القهر السياسي والإجتماعي وفقدان الأمل في التغيير بالوسائل السلمية أو غير السلمية , وهذا يضع أعدادا كبيرة من الناس على محك الخطورة من ناحية إمكانية الإقدام على الإنتحار في أي لحظة , وهذا نداء إلى كل من يهمه الأمر وإلى كل مسئول صغير أو كبير بقي لديه ذرة من ضمير أن يولي هؤلاء الناس اهتماما . هل إلى خروج من سبيل ؟ لقد أصبح التفكير في حل المشاكل في المجتمع المصري محاطا بالشكوك , ولا يرجع ذلك لصعوبتها (وإن كانت صعبة) وتعقيداتها (وإن كانت شديدة التعقيد) , ولكن يرجع إلى غياب الإرادة لحلها , فنحن أمام سلطة مشغولة بمكاسبها واستقرار حكمها إلى الأبد , وأمام شعب وصل إلى حالة من الإرتخاء واليأس وقلة الحيلة , وأمام نخبة منقسمة على نفسها وعاجزة عن فعل قيادة التغيير . وإذا استمر هذا الحال طويلا في ظل خوف الناس من السلطة وتجنبهم لها فإن طاقة الإحباط والعنف والغضب والعدوان ستنصرف عن مواجهة السلطة أو محاولة تغييرها أو تغيير أساليبها , وتتوزع في صورة عنف بيني في العلاقات بين الناس (يؤدي إلى كثرة الجرائم المجتمعية) وعنف داخلي موجه نحو الذات (يؤدي إلى تزايد حالات الإنتحار) . ويخطئ من يعتقد أن الأمر قد يحل بزيادة مرتبات بعض الفئات أو منح بعض العلاوات , أو إصدار بطاقات ذكية أو غبية لبعض الناس , أو إنشاء بعض الجمعيات الخيرية توزع شنط رمضان أو عمل موائد الرحمن أو غيرها , فالأمر يتجاوز ذلك بكثير , يتجاوزه إلى تغييرات كبيرة في بنية المجتمع السياسية والإقتصادية والإجتماعية , بنية تعيد الشعور بالعدل , وبنية تضبط جماح الفساد المتفشي والقاهر والمستفز , بنية تقضي على الإستبداد المزمن والمتمترس , بنية تواجه تزوير إرادة الناس في الإنتخابات , بنية تعيد للعمل قيمته وللعلم مكانته , بنية تعيد للناس المفاهيم الدينية الحقيقية وليس الشكل الظاهر , بنية توقظ إرادة التغيير التي ضعفت كثيرا لدى الناس وتركوا أمرهم بيد مستغلهم وخضعوا واستسلموا وحاولوا التكيف والإستسلام بدلا من المواجهة والتغيير . وبالتأكيد لن يستطيع عامة الناس الخروج من هذا النفق الذي انحشروا فيه دون قيادة من النخبة تتجرد من مصالحها الشخصية ومكاسبها الحزبية أو الفئوية وتعمل مباشرة في الناس ومن أجل الناس ومع الناس , قبل أن ينتحر هؤلاء الناس يأسا وضعفا وكمدا , وإلى أن يتحقق ذلك فلا مانع بل لابد من مبادرات أهل الخير على المستويات الفردية والجماعية لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من أهل مصر الفقراء والمعدمين الذين يعيشون ظروفا تجعلهم تحت خط الإبادة .