قامت الأجهزة الأمنية في مصر بالقبض علي شخص يعمل ضمن شبكة جاسوسية أنشأها جهاز الموساد الإسرائيلي و جعل لها فروعاً في المنطقة العربية. كشفت التحقيقات المنشورة مع طارق غبد الرازق المواطن المصري المتهم بالجاسوسية عن نجاحه في تجنيد شخص نافذ في المخابرات السورية، و عن طريقه أمكن لإسرائيل معرفة كل شيء عما قيل أنه مفاعل نووي أقامته سوريا في دير الزور، و من ثم تمكنت إسرائيل من قصفه و تدميره عام 2007. منذ الإعلان عن كشف الجاسوس و القبض عليه نشطت وسائل الإعلام في عمل التحقيقات و الاستطلاعات عن القضية و ملابساتها، و قامت المحطات التليفزيونية باستضافة الكتّاب و الصحفيين و المهتمين بالشأن العام، فضلاً عمن قيل أنهم خبراء في الموضوع، و خرجت علينا بتنظيرات و تحليلات تفسر و توضح ظاهرة نجاح المخابرات الإسرايئلية في تجنيد بعض الشباب، و السهولة النسبية لوقوعهم في فخ الجاسوسية. أرجع بعض من أفتوا في الموضوع المسألة إلي غياب الإنتماء و هوان شأن الوطن علي الناس، و عزاها بعضهم الآخر إلي الضائقة الإقتصادية التي ترتب عليها سهولة الإنسياق إلي إغراء المال، و تحدث نفر منهم عن غياب المشروع العام و الحلم المشترك الذي من شانه أن يجمع الشباب و يحشد طاقاتهم لتحقيقه. و لكن مع كل الإحترام الواجب للآراء السابقة و لمن أطلقوها فإنها في رأيي لم ترق إلي أن تفسر الأمر و لم تستطع أن تلامس السبب الحقيقي..فمسألة غياب الإنتماء هذه قد تفسر ظاهرة تكاسل الموظفين و تقاعسهم عن أداء أعمالهم، و قد توضح أيضاً لماذا تمتليء الشوارع بالزبالة. كما أن حكاية الضائقة الإقتصادية قد تصلح سبباً لتبرير الرشوة التي أصبح يتقاضاها الجميع من الجميع، و قد تصلح سبباً لتفسير جرائم السرقة و الاجتراء علي المال العام..أما غياب المشروع العام و الحلم القومي فقد يكون تفسيراً لظاهرة الهجرة و الفرار من وطن ضاق بأحلام سكانه. لكن كل هذا لا يفسر أسباب إقبال مواطن علي التعاون مع إسرائيل و مدها بالمعلومات التي تطلبها عن وطنه و أهله و ناسه و أجهزته و منشآته. فما هو السبب الحقيقي يا تري لحدوث مثل هذا الأمر؟. بداية يتعين التوضيح أن المنحرفين و الخونة كانوا موجودين طول الوقت حتي في ذروة حالة الحرب التي كانت قائمة بيننا و بين إسرائيل، و لم تخل وسائل الإعلام وقت حرب الاستنزاف مثلاً من أخبار بين الحين و الآخر عن جاسوس سقط أو شبكة جاسوسية وقعت في أيدي رجال مخابراتنا. و قتها كان الحلم المشترك و المشروع القومي الذي هو الثأر من العدو حاضراً بمنتهي القوة، و كانت أحوال الناس الإقتصادية أفضل بمائة مرة مما هي عليه الآن!..و كان الإنتماء للوطن و الرغبة في بذل الدم و الشوق إلي الشهادة في أعلي مستوياتها عند كل مصري. و رغم هذا فلم يحل ذلك كله دون وجود قلة من الخونة كان دافعهم للخيانة هو خسة في الطبع و دناءة في المنبت و سمات شخصية حقيرة جعلتهم أقرب للحشرات منهم إلي البشر، و كان هؤلاء الناس يعلمون عن أنفسهم كل هذا و يفهمون أن ما يؤدونه هو الخيانة العظمي في أوضح صورها. أما الآن فإني أتصور أن من يستجيبون للغواية ليسوا علي هذه الدرجة من السوء، بل أراهم أقرب إلي أن يكونوا أناساً عاديين استجابوا لعمل رأوه يملأ الأفق و شاهدوا أناساً اكبر منهم بكثير يفعلونه علانية دون حساب أو معقب!. و من يعترض علي هذا الكلام عليه أن يوضح لنا ما تأثير عمل مثل تزويد إسرائيل بالبترول و الغاز المصري بأسعار تفضيلية هي أقرب إلي منحه لها بالمجان منه إلي عملية بيع و شراء طبيعية؟..و عليه أن يوضح لنا ما تأثير رؤية الناس لحكومتهم و هي تؤيد العدوان الإسرائيلي ضد غزة و تحرق اطفالها بالأسلحة الكيماوية؟. و ما تأثير رؤيتهم لحكامهم يدينون المقاومة اللبنانية و يسعون لإلحاق الهزيمة بها و مساندة القوي المتعاونة مع إسرائيل في الساحة اللبنانية؟. و ما تأثير رؤيتهم للسياسة الخارجية لبلدهم و هي تعادي بلداً مثل إيران لم يؤذنا أبداً و تربطنا به وشائج الدين و المودة لمجرد أنها علي خلاف مع إسرائيل؟. و ما الموقف و ساستنا يعترضون علي البرنامج النووي السلمي لإيران و يغضون الطرف عن قنابل إسرائيل النووية؟. و بماذا يشعر المواطن المصري و هو يري وسائل إعلامه القومية تتهكم علي تركيا و تسخر من أردوجان لمجرد أنه وقف مع المستضعفين من أهلنا في فلسطين و واجه غطرسة إسرائيل بشجاعة؟. و ماذا يفعل المواطن في مصر و هو يري نجوم البيزنس و رموز الفكر الجديد و هم يتعاملون مع إسرائيل بالبيع و الشراء و الكويز و المشاريع المشتركة؟. و ماذا يفعلون و هم يرون أصحاب الصحف الخاصة و المحطات التليفزيونية التي تقوم بتشكيل وعيهم و هم غارقون في حب إسرائيل أكثر من حبهم لأمهاتهم و آبائهم؟.
كل الأمثلة السابقة قصدت بها أن أوضح أن الرسائل التي تصل إلي المواطن المصري عبر مواقف مسؤوليه و وسائل إعلامه الحكومية و الخاصة كلها رسائل تؤكد للمواطن المصري أن إسرائيل لا يمكن أن تكون عدواً بأي حال من الأحوال!..و هل لو كانت اسرائيل عدو كنا يمكن أن نشارك في حصار الفلسطينيين من أجلها و نفتح معبر رفح و نغلقه تبعاً لمشيئتها؟.هل لو كانت إسرائيل تمثل دولة أعداء كنا نمنحها الغاز المصري بالمجان تقريباً في الوقت الذي نحرم منه المواطن المصري؟. إن سلوكاً كهذا خليق بأن يلقي في روع الإنسان المصري العادي أن إسرائيل ليست فقط دولة صديقة لكنها بالتأكيد دولة شقيقة و لهذا فإننا نؤثرها علي أنفسنا رغم ما بنا من خصاصة، و سلوكاً كهذا يبعث برسالة واضحة مؤداها أن ما يحقق مصالح إسرائيل الأمنية هو بالنسبة لنا أمر طيب، و ان ما يحقق مصالحها الإقتصادية هو هدفنا الذي لا نحيد عنه. و من يتابع الصحف لدينا و يقرأ أن إسرائيل لا بد و أن يكون لها دور في اختيار رئيسنا القادم كما صرح بهذا مصطفي الفقي قبل فترة لا بد و أن يدرك أن العري التي تربطنا بدولة بني صهيون هي عري لا تنفصم و أننا تقريباً كيان واحد دون إعلان!. فكيف بعد كل هذا ندعي أننا تفاجأنا لأن هناك من آمن بهذا النهج و قرر أن يمنح هو الآخر إسرائيل حبه و انتمائه و معلوماته؟. و كيف نتظاهر بأننا نستشعر خطورة قضية الجاسوس في الوقت الذي يقوم أصحاب السلطة ببذل أقصي الجهد من أجل راحة إسرائيل و ضمان أمن و رفاهية المواطن الإسرائيلي؟. هذا هو السبب يا من تريدون أن تعرفوا سبب سهولة وقوع الشباب في يد المخابرات الإسرائيلية..هذا هو السبب الذي يلقي عبئاً كبيراً علي جهاز المخابرات المصري العظيم الذي يسهر من أجل أمن الوطن في الوقت الذي يقوم غيرهم بالسهر علي أمن إسرائيل!. و علي السادة المحللين الذين ملأوا دماغنا بتحليلاتهم الفارغة أن يقوموا بتحليل "بول و براز" خير من مساهمتهم في حرف وعي الناس المنحرف أصلاً!.