ما يمكن أن نتوقف عنده في الأزمة المشتعلة بين صحفيي جريدة الدستور المصرية الخاصة وملاكها الجدد لا يمكن حصره في مطالب مادية , أو ايجاد لوائح مؤسسية لواحدة من ابرز الصحف المعارضة في مصر , أو حتي الحفاظ علي السياسة التحريرية للجريدة بعد اقالة رئيس تحريرها ومؤسسها ابراهيم عيسي , وانما ما يستحق الالتفات اليه هو ذلك الجيل الشاب الصاعد بقوة , والذي ربما لم يضعه الملاك الجدد في الحسبان , واعتقادهم أن الجريدة بمجرد الاستحواذ عليها ستعتبر كغيرها من الأعمال التي تضمها مؤسساتهم وشركاتهم التجارية , لكن الوضع لم يكن كذلك علي الاطلاق , فالوسط الصحفي المصري حاليا يتصدره مدعون للشرف والأخلاق والمبادئ ويعمل غالبيتهم أولا وأخيرا لحساب السلطة الفاسدة , و حسابهم الشخصي لتحقيق أكبر قدر ممكن من الربح المادي علي حساب الشرف والأخلاق , و أمانة الكلمة التي ارتضوا أن يحملوها . و رغم أن مثل هذا الاحتجاج قد حدث منذ سنوات في أحدي الصحف الحزبية , الا أن الوضع في الدستور , كانت مختلفا برمته , فالصحفيين الشباب الذين أسهموا في ثاني أوسع الصحف الخاصة انتشارا –رغم الضعف الشديد في امكاناتها المادية ورواتبهم القليلة – لم يرضوا بما جاء به الملاك الجدد من مضاعفة الرواتب , و زيادة بعض الامكانات للقيام بواجباتهم اليومية , وهو ما غاب عن هؤلاء الملاك وفي مقدمتهم السيد البدوي شحاتة رئيس حزب الوفد والذي لوث سمعته السياسية بذبح جريدة معارضة و هروبه بجريمته ببيع اسهمه بعد حدوث الازمة . فالصحافيون لم يكونوا كغيرهم من الصحفيين المنتشرين حاليا في عدة مؤسسات ويسعون للوصول الي أماكن النفوذ والسلطة باي طريقة وباي ثمن حتي لو علي حساب الضمير , والقيم , بل تسودهم المبادئ و تنتشر بينهم القيم . وكمشارك في الأزمة الأخيرة , يمكن رواية ما حدث بصورة ربما تساعد في معفة كيف يتكون جيل جديد من الصحفيين الذين قد ينهضوا بالوطن الضائع بسبب فساد نخبته المثقفة , والمثير أن من قاموا بالاعتراض والاعتصام ضد الملاك الجدد , بسبب اقالة رئيس التحرير هم أنفسهم من كانوا يعترضون علي رئيس التحرير قبل أيام وشهور بسبب خلل ما في الرواتب أو سلوك من الادارة في شأن اداري , والملفت أن " الدستور " ليست كغيرها من المؤسسات الصحافية , التي يسودها الرعب من رئيس التحرير أو رئيس القسم , ويخشي فيها المحررين التحدث بين بعضهم البعض علي ما يخص رئيسهم أو انتقاد تصرف له , وانما كانت الدعوة لطرح القضايا تتم علانية , وتحت مرأي ومسمع من الجميع , ويشارك فيها الجميع معين وغير معين , نقابي وغير نقابي , وكثيرا ما ناقش الصحفيون أمورا لرئيس التحرير ووجهوا له انتقادات بين بعضهم البعض , سواء في سياسة التحرير أو علاقات العمل . كانت العلاقة بين الزملاء مذهلة , أساسها الحفاظ علي حقوق الجميع , و الدفاع عن القيم المشتركة , والاعتراض علي ما يمس المجموع , كان الجميع يلتزم بالقررات والتي كانت تتخذ بالاغلبية . وبذلك فاننا أمام نموذج نادر لعلاقات العمل في أي مؤسسة عربية سواء أكانت مؤسسة فكر أو تجارة . وفي الأزمة الأخيرة , تخوف الصحفيون من عملية البيع , رغم انها كانت ستجلب لهم زيادة في الرواتب , وتخرج بالجريدة من نطاق " الورشة " الي نطاق المؤسسة , فرجل الأعمال الذي عرض الشراء هو رئيس حزب معارض , قرر المشاركة في الانتخابات البرلمانية المقبلة , رغم أن الجريدة كانت تؤيد الدعوة لمقطاعتها , وبالاضافة الي مصالحه التجارية والاقتصادية فان هناك اشكالية كانت لابد وأن تحدث , وهي كيفية استمرار الجريدة بسياستها التحريرية في ظل التشابك والتعارض مع مصالح مالكها الجديد .بعد عملية الشراء بايام ليست بالطويلة , اعترض الصحفيون علي تقدير خاطئ من قبل الادارة الجديدة علي تحديد قيمة الضرائب علي الرواتب , وقرروا الاعتصام , وبكل غباء سياسي استغل السيد البدوي التحرك – الذي كان معتادا مع الادارة القديمة – للاطاحة برئيس التحرير والتعجيل بتنفيذ الأوامر التي جاءت له من السلطة لتدمير الجريدة قبل الانتخابات البرلمانية و الرئاسية , واتمام الصفقة التي اتفق مع النظام عليها , لكن حساباته كانت خاطئة . انتشر خبر الاقالة التعسفي ليل الاثنين بين الصحفيين بعضهم توجه الي المقر , فجرا للوقوف علي الوضع وحماية مقر الجريدة , وفي الصباح كان المشهد غير متوقع اجتماع طارئ لجميع العاملين بالجريدة , وسائل اعلام جاءت للتغطية , لا عمل بالجريدة , لا رئيس تحرير ولا رئيس تحرير تنفيذي , كيف ستخرج الجريدة اذن , كان الوضع اشبه بانهيار العراق أمام قوات التحالف الاجرامي , وغياب مؤسسات الدولة بين عشية وضحاها , لم يتوقع البدوي ما حدث , فاضطر الي استقطاب صحفيون بالاجر حتي يتمكن من الاستمرار في اصدار الجريدة , وكان له ما اراد فخرجت صحيفة صفراء , ليست الدستور الحقيقية , بل الدستور المزيفة , توالت الايام في الجريدة المختطفة , كان تطور الاحتجاج فيها يستحق التامل و جدير بالاحرام , الاستمرار في مقر العمل بدون عمل , تفاوض مع البدوي , نقل التفاوض الي نقابة الصحفيين واعتبارها طرف اصيل في عملية اعادة اعمار الجريدة , ثم البقاء في مقر العمل , وتحديد جلسة اخري للتفاوض مع المالك في النقابة لكنه لم يحضر فتم اعلان الاعتصام . كانت الصورة غريبة نوعا ما في الوسط الصحفي المصري , لم يسبق لها مثيل , شغلت حيزا كبيرا من اهتمام وسائل الاعلام , لدرجة استغرب فيها البعض أن يحدث كل ذلك بسبب اقالة رئيس تحرير , كان احتجاج الصحفيين مبهرا , وتماسكهم رائع , و تفاوضهم يستحق التقدير . فالقضية ستذكر دوما في تاريخ الصحافة المصرية , وستؤسس لعلاقة جديدة بين ملاك الصحف الخاصة والصحفيين , تمنع التدخل السافر لرأس المال في الصحافة بصورة فجة , وتعطي درسا لجيل جديد من الصحفيين , في الدفاع عن حقوقه والالتزام بواجباته تجاه المجتمع , لا تجاه المالك , و اذا كنا نريد أن نردد شعار " عاش كفاح الصحافيين " فاننا أيضا يمكن أن نقول " المجد لصحافيي الدستور المقال منشور في جريدة القدس العربي في 21 أكتوبر 2010