في أقل من أسبوعين اثنين أنفق رئيس الجمهورية من وقت سيادته الثمين أكثر من عشر ساعات كاملة في لقاءات مطولة مع عينات من الفنانين والمثقفين بدأت بالممثل الكوميدي الأستاذ طلعت زكريا وانتهت بالأساتذة المثقفين أصدقاء ومعارف معالي الوزير الرسام فاروق حسني. وبالطبع نحن لا نعرف علي وجه الدقة ما الذي أثير وقيل في هذه الساعات العشر، وهل كان كلاما له قيمة أصلا (لا أسأل عن الجدوي) توازي وتكافئ قيمة الوقت المهدور في هاتيك اللقاءات ؟! أم أن أغلب كلام ضيوف الرئيس سار في المجري العتيد نفسه الذي تدل عليه عبارات مشهورة وموروثة من شاكلة : «والله ياريس، وعهد الله إحنا بنحبك قوي قوي خالص»، «ربنا يخليك لينا ولمصر ياريس» و..«والنبي ياريس تشمل الفن والفنانين بعطفك وحنانك وتشوفنا بحاجة، أي حاجة سيادتك».. هذا إذا كان المتحدث أو المتحدثة في حضرة الرئيس فنانا أو فنانة، أما المثقفون فقد يستخدمون عبارات تحمل المعاني عينها لكنها ربما أكثر هنداما وتزويقا وأشد حزلقة من قبيل مثلا «نحن نقدر لسيادتكم ونثمن عاليا جدا تقديركم واهتمامكم الدائم بالفكر والثقافة وأهل بيتهما»، و«أنتم والله مرآة حضارتنا وضمانة استقرارنا واستثمارنا وعنوان استمرارنا.. إلخ»، ثم لن ينسي أحدهم أن يوجه للرئيس النداء التاريخي البليغ نفسه القائل: «والنبي ياريس تشوف المثقفين بحاجة، أي حاجة ربنا يخلي سيادتك»!! ولا أكتمكم سرا أن لدي عبد الله الفقير كاتب هذه السطور ما لا يقل عن ألف و18 سببا تجعله يظن أن جل ما دار في لقاءات رئيس الجمهورية الأخيرة مع عينات الفن والثقافة لم يخرج عن المعاني والعبارات آنفة الذكر، ولعل ما يعزز هذا الظن أن الأنباء بشرتنا بأن الرئيس تفضل وتعطف و«شاف» الفنانين والمثقفين كل فريق منهم ب«حاجة» فعلا، فقد استجاب سيادته لطلب الأستاذ «طلعت» ووافق علي اقتراحه الداعي لعودة ما يسمي «عيد الفن» ذلك الذي طواه النسيان بعد رحيل مخترعه المرحوم الأستاذ أنور السادات، كما أن الرئيس أفرط في الكرم ولم يتأخر عن تلبية نداء السادة المثقفين أصدقاء معالي الوزير الرسام بأن يوجه سيادته «كلمة» لمؤتمرهم الشتوي المقبل، فضلا عن رؤية وجوه حضراتهم السمحة مرة واحدة كل ستة أشهر!! غير أنني مستعد بمنتهي الرضا والسرور أن أهمل هذه الشواهد كلها وأضعها مع الألف و18 سببا الأخري جانبا أو بجوار أقرب حائط، إذا أتت الأيام السوداء المقبلة بما يثبت خطأ توقعي وسوء ظني في عينات الفن والثقافة الذين أخذوا ساعات عشر من وقت الرئيس، وما يؤكد أن هذه الساعات الثمينة لم تذهب سدي ولم تستهلك في النفاق الرخيص وإنما بعض هذه «العينات» تذَكر وهو في الحضرة الرئاسية، أو عبر بخاطره (حتي ولو لم يقل) حقيقة أن نصف المصريين غاصوا وضاعوا تماما في فضاءات الجوع والبؤس والعدم لدرجة أن الفقر نفسه صار يأنف ويتبرأ من حالهم وأحوالهم ويقسم بأغلظ الإيمان أنه لا يعرف سوي60 في المائة من النصف الثاني. أتمني من كل قلبي أن يكون أحدهم فكر مجرد تفكير أن يصارح الرئيس بأن عصر سيادته شهد أطول «حالة طوارئ» متصلة في تاريخنا المعاصر، وأكبر عدد معتقلين في تاريخنا الحديث كله، وأن الفساد أضحي في عهده قانون حياة صارم وشامل، وأن السلطة العليا تزوجت بالثروة المنهوبة زواجا كاثوليكيا فعم الخراب والتخلف واستفحل الظلم والقنوط واليأس وصارت «الزبالة» أقوي معالم شوارعنا. سوف أعيش والله علي أمل أن يكون واحدا من عينات أهل الفن والثقافة قد داعب خياله أن يبوح بشجاعة أمام الرئيس بما معناه أن المصريين ليسوا عقارا ولا متاعا يورث وتنتقل ملكيته من الآباء إلي الأبناء، وأن مصر أهينت وضاعت هيبتها وانحطت قواها إلي حد أنها باعت غازها للعدو الرابض علي الحدود برخص التراب وأهدت للعدو القاعد جوه الحدود أرضها وصحاريها مجانا وهي تهيم الآن علي وجهها بحثا عن شقة إيجار جديد!!