هل هي صدفة أن تكون جذور كل رؤساء مصر - باستثناء محمد نجيب المولود في السودان- من أول عبد الناصر وحتي مبارك مرورا بالسادات ريفية بحتة؟ ربما، لكن الأكيد أنها ليست صدفة في أن الصفات والجينات الريفية قد أثرت بشكل أو بآخر في منهج الحكم وطريقة اتخاذ القرار لدي كل هؤلاء الرؤساء، ولعل هذه الزاوية هي التي شجعت الباحثة «انتصار عوض السبكي» علي أن تكون محورا لرسالة ماجستير بعنوان «انعكاس قيم البيئة الريفية علي توجهات القيادات السياسية في مصر»، ولعلها فعلت حسنا عندما نشرت هذه الرسالة الأكاديمية في كتاب أن عملت فيها بعض التنقيحات والإضافات وغيرت اسمها إلي «قيم القادة السياسيين وأثرها في القرار السياسي» وإن ظل عنوان الكتاب في حاجة لأن يكون أكثر جاذبية للقارئ غير المتخصص. يبدو نهج الكتاب واضحا منذ البداية عندما تلخص المؤلفة السمات المشتركة للقادة السياسيين في مصر في المائة سنة الماضية وعلي رأسهم الرؤساء الثلاثة، وأولي هذه القيم هي «التدين» قائلة: «ارتبطت عملية الزراعة بعملية التدين، هذا بلاشك ما انعكس علي المجتمع الريفي وعلي القادة السياسيين تجاه نظرتهم للأمور التي تتسم بالرتابة.. فهناك تدين ظاهري يهدف إلي تحقيق مكاسب دنيوية عن طريق خلق تعاطف وتأييد من قبل الشعب، وهذا بلاشك ما ينطبق علي تدين القادة السياسيين والنخبة السياسية»، هكذا يصبح التدين وسيلة وليس غاية، ويبدو منطقي جدا إذن أن يسعي هؤلاء القادة إلي الاحتفاظ بالقيم التقليدية للمجتمع مثل احترام العادات والتقاليد في الحوار والملابس والسلوك، دون أن يعني هنا الحفاظ علي إقامة الصلاة واستخدامها كوسيلة من وسائل التقرب للجماهير - يستنثي من ذلك الرئيس السادات طبعا. بعد التدين لدينا العديد من القيم الأخري المشتركة، مثل البيروقراطية وتباطؤ معدل الدوران في السلطة، و«سلطوية النظام السياسي واستبداده وتطرفه» وهي قيمة آتية من أن مهنة الزراعة تعتمد علي المركزية وإصدار القرارات المنفردة التي لا تقبل النقاش والحوار وحينها يصبح الحاكم كبيرا للعائلة في الريف، كما تقول المؤلفة، وهذا منهج كما يعرفه كثيرون بدأه الرئيس السادات، ثم جاء الرئيس مبارك وحاول أن يرسخه لكن طول بقائه في السلطة وابتعاده عن الاتصال بالجماهير أفقده هذه الصفة. يفرد الكتاب جزءًا كبيرًا من صفحاته للحديث عن القيم الاجتماعية والسياسية لدي الرئيس مبارك، وتخلص مؤلفته إلي تأكيد أن الرئيس مبارك يتعامل مع رئاسة الجمهورية باعتبارها «وظيفة» وأنه ليس أكثر من مجرد «موظف»، وأن ثقافته الريفية تجعله متأثر بالنمطية وحب الاستقرار مما دفعه لعدم تقبل الجديد سواء في الأفكار أو الآراء أو الأشخاص، معتقدا - كما السادات - أن مصر فرعونية أولا وعربية ثانيا، وأنه جعل من البيروقراطية «جهازًا للحكم ومصدرًا من مصادر التجنيد للمناصب النخبوية» معتقدة بأن مبارك التزم كثيرا بالقيم الريفية في الفترة من عام 1981 وحتي 1991 حتي «يعود المجتمع إلي طبيعته السمحة المحبة المعتدلة والمقدرة لقادته ورؤسائه واستقراره»، والسبب في ذلك واضح طبعا.. أن دم الرئيس السادات كان لا يزال سائلا علي المنصة. تبدو قيم الرئيس مبارك وعصره مختلفة بشكل كبير عن قيم عصر عبد الناصر التي يلخصها الكتاب في «العلمانية» - عبد الناصر هو من أغلي المحاكم الشرعية وأقام بدلا منها محاكم مدنية عام 1956 كما أنه أضاف العلوم العصرية إلي الدراسة في الأزهر عام 1961-، إضافة إلي قيم العمل الجماعي والانتماء والتماسك والصراع، والقيمة الأخيرة تتجلي في الدسائس والمؤامرات بين أفراد نخبة ما بعد الثورة. علي أن الكتاب يفرد فصله الأخير- والذي ينشر لأول مرة بعد إضافته علي الرسالة الأكاديمية - وتحت عنوان «من يحكم مصر غدا» لتحليل القيم السياسية لاثنين يعتبرهما الكتاب الأكثر حظوظا لحكم مصر.. جمال مبارك ومحمد البرادعي. يخلص الكتاب إلي أن الفارق الأساسي بين جمال مبارك والبرادعي يكمن في عدة نقاط أهمها طبيعة وتكوين النخبة التي تحيط بكل منهما، فنخبة الأول تتكون من زملاء الدراسة والعمل - «فاروق العقدة رئيس البنك المركزي وجمال محرم رئيس الغرفة التجارية المصرية الأمريكية وحسن عبد الله العضو المنتدب للبنك العربي الأفريقي ورئيس اللجنة الاقتصادية بالحزب الوطني جميعهم عملوا مع جمال مبارك حينما كان في بنك أوف أمريكا"، وأنه رغم تقديمها باعتباره رمزا للإصلاح فإنه يتبني الكثير من أفكار والده، كما أنه ينادي بقيم معاصرة ولكن بأساليب قديمة فيختزل الحرية في الاقتصاد والرأسمالية في الخصخصة والإصلاح الاقتصادي في بيع القطاع العام والاستثمار في بناء المنتجعات في الساحل الشمالي!، بينما يختلف الأمر فيما يتعلق بخطوات البرادعي لتحقيق التغيير- رغم أنه لا يوجد في منصب سياسي أو حزبي مثلما هو الحال مع مبارك الابن- فهو يوجه خطابه السياسي إلي المجتمع كله وليس لفئة محددة، ويقدم نفسه باعتباره «قائد مرحلي» وليس قائدًا للأبد محددا رؤيته الإصلاحية مستلهما إياها وطرق تنفيذها من زعماء سابقين مثل غاندي وسعد زغلول، وتخلص الدراسة للقول بأن البرادعي حقق ما تهدف الدراسة إليه من ضرورة «أن يتحلي الراغب في قيادة المجتمع بقيم الأصالة والمعاصرة معا أي ينظر للخلف حتي يتحرك للأمام»... بقي فقط أن يكون الشعب متراصا خلف هذا القائد وليس أمامه حتي يكون سندا له ولا يفر مبكرا إذا وقعت «الهجمة»!