كان أول ما اصطدمت به عيني صباح يوم العيد هو الجريدة، كانت موضوعة علي الكرسي بحيث ظهر منها الخبر الكارثة في منتصف الصفحة «حريق 12 من جنود الأمن المركزي في العنبر أثناء نومهم».. يا الله!!! لم أكن في حاجة لقراءة المزيد من التفاصيل، فالمانشيت وحده كفيل وكاف لانقباض القلب والشعور بالمرارة وبالوجع.. سؤال عبثي راودني.. استغفرت الله عليه.. لماذا يارب ابتلاء الغلابة والمطحونين والمدهوسين؟ وقد ابتلتهم الحياة بكل ألوان في هذه الحياة، وجدتني أشاهد المشهد وأتخيله ورسمت كل السيناريوهات التي قرأتها لاحقاً، شاهدت الهلع أو تخيلته، شاهدت الشباب الذين هزمتهم الحياة أثناء يقظتهم وأحرقتهم النيران وهم نيام، تخيلت مشهد عويل الأهالي المنتظرين عودة أبنائهم ليصلوا معهم صلاة العيد ويهنأون بهم ومعهم أياماً قليلة، شاب تنتظره عائلته ليحضر زفاف أخته، والآخر ليلقي أباه المريض العاجز، وآخر يحمل في سترته جنيهات قليلة ليعطيها لوالدته لتسدد بعضاً من ديونها وآخر يحمل لأسرته بعض الهدايا البسيطة التي التقطها من علي رصيف العتبة، وآخر كان ينتظر العودة بفارغ صبره واحتماله ليتقدم لخطبة قريبته التي كان يحلم الزواج بها.. كل هؤلاء احترقوا.. ماتوا حرقاً وهم نائمون منهم من قادر علي الحلم ومنهم من لم يعتد الحلم.. .فقط ينام ليصحو.. ويصحو منتظراً أن يأتي الليل سريعاً لينام ليغيب عن الواقع، ويميت ذكريات يوم بائس لا حياة فيه.. جميعهم احترقوا.. من كان يحلم ومن كان لا يرغب في الحلم. ما هذه التعاسة التي تلحق بالبسطاء حينما يريدون التشبث بذرة أمل يعينهم علي الحياة، لا أريد أن أضفي علي الحادث مأساوية أكثر من مأساويته، لكنني لا أستطيع إخفاء مشاعري وأفكاري بأن الكوارث في هذا البلد لا تلحق إلا ببسطاء ومطحوني هذا البلد. سئمت نفس المانشيت الحقير الذي يلازم كل كارثة، مرة من احتراق قطار، احتراق عنبر للجنود، غرق آلاف المصريين في عبارة الموت.. إلخ، حيث يذكر كل مرة في نهاية جملة المانشيت: «وقد أمر وزير الداخلية بصرف عشرة آلاف جنيه لأسر الضحايا وخمسة آلاف للمصابين».. يالله.. ارحمنا من هذه الصفقة الرخيصة. لا اعتراض علي القدر الإلهي ولا حكمته، لكن العجب كل العجب يمكنك أن تقرأه وتقرأ مابين سطور الفجيعة.. فجيعة أخري تكتشف من خلالها أن هؤلاء الذين قد احترقوا بنيران الماس الكهربائي الناتج عن مروحة سقف اشتعلت في مراتب وبطاطين هؤلاء الجنود التي يستخدمونها في نار أجواء أغسطس وسبتمبر قد زادت من درجة الاشتعال.. اللهم لا اعتراض، لكن الاعتراض علي أفعال البشر.. .إدارة الوحدة ترفض دخول سيارات الإسعاف لنقل الموتي والمصابين المحروقين المتفحمين، فيضطر زملاؤهم الناجون أن يحملوهم في سيارات اللوري ومن ثم نقلهم إلي سيارات الإسعاف المنتظرة خارج المركز، ولو لديك قدرة بسيطة من التخيل، فلتتخيل معي هذا المشهد المأساوي الموجع، من المؤكد أنه قد نتج عنه أضرار عديدة - أقلها وأهونها - هي مرمطة المصابين وإيلامهم بطرق الحمل غير الطبية المتخصصة، هذا ناهيك عن الألم النفسي أو مرمطة الموتي ونقلهم من سيارة إلي أخري، بالإضافة إلي الوجع والعبء النفسي المدمر الذي تكبده الجنود الناجون الذين التصقوا بأجسامهم مع أجساد زملائهم الساخنة المشتعلة.. يا الله. تخيل معي مشهد النيران التي أكلت أربعة عنابر ومائة سرير علي الأقل، تخيل معي التأخير الذي دام ساعات، مما أدي لاستمرار هذا الاشتعال في وحدة عسكرية غير مجهزة بوسائل إطفاء وإنقاذ ذاتي، أكلتهم النيران في تلك العنابر الفقيرة التي تبعد عن مقر الإدارة ما لا قل عن 800 متر كما وردت في الأخبار.. . في النهاية.. لم يعد شيء يجدي فقد احترق الجنود الغلابة ليلة العيد. رحمهم الله في آخرتهم ورحم ذويهم.. ولعلنا نرحمهم ونرحم أمثالهم.. فالأسي والوجع هما سيدا الموقف، لكن الفضول أيضاً لا يمكن استبعاده من الموقف.. فكما ذكرت الجرائد علي استحياء وفي جمل مبهمة: «ومن المتوقع أن توضح التحقيقات في الأيام القليلة المقبلة من هي الأطراف المسئولة والمقصرة في هذا الحادث؟» سأنتظر وليتكم تنتظرون معي الأيام المقبلة.. هل ستطل علينا الجرائد بمانشيت عريض يقول: وبناء علي التحقيقات والمعاينات تبين أن.. فلاناً أو مسئول الإدارة الفنية أو مسئول الدفاع المدني أو.. أو.. أياً كانت أسماءهم أو اختصاصاتهم.. أنهم المسئولون عن موت 12 شاباً مصرياً حرقاً، وإصابة العشرات من الشباب بحروق بالغة.. .أما عن عدد الشباب المحترقين نفسياً سواء ممن كانوا داخل عنابر الموت أو خارجها.. فحدث ولا حرج!!