ثمة متلازمة مصرية باتت تحكم الاشتباكات المذهبية في السنوات الأخيرة، وتتمثل في: خلاف اجتماعي أو اقتصادي يقود إلي شحن علي أساس ديني، يقود إلي اعتداءات تستهدف الأقباط في الغالب تدفع أجهزة الأمن إلي التدخل بعد خراب البصرة، تنتهي بعناق مسيحي - إسلامي وتأكيد من سيادة المحافظ والباشا رئيس مباحث أمن الدولة، وبرقية من ديوان الرئاسة، بأن «ما حدث ويحدث وسيحدث لا يعبر عن الطبيعة الأصيلة لعنصري الأمة مسلمين وأقباط لهم ما لنا وعليهم ما علينا». هذه الصيغة السمجة والممجوجة في توصيف جرائم باتت تهدد مستقبل دولة وكيان مجتمع لا تنطلي علي أحد، فالأقباط والمسلمون يعرفون أن ما يحدث ومن فرط تكراره بدأ يتعمق ويضرب جذوره في المجتمع المصري، وأن الدولة البوليسية التي أصبحتها مصر لا تكترث بأحد سوي النظام وأمن النظام، ومن ثم فهي ليست واعية أو مستعدة للتصدي للمشكلات الطائفية عندما تطل برأسها أو علاجها جذريا لدي ظهورها ومهما كان الثمن. بل يمكن القول ودون مبالغة إن البلد صار في حالة فتنة مستديمة إذا كان تعبير «الفتنة الطائفية» هو ما يحلو للنظام إطلاقه علي إراقة الدم والاشتباكات المتكررة. في الماضي، كنا ندفع عن الوطن تهمة التمييز ونرد علي اتهامات اضطهاد الأقباط في مصر، بأن المصريين جميعا مضطهدون ومن بينهم الأقباط، وهذا صحيح. لكن ما تبدي في السنوات الأخيرة يفرض نوعا من مراجعة الذات ويوجب علينا الاعتراف بأن الأقباط المصريين لهم مواجع ومخاوف لا ينبغي التهوين منها ولا التعامل معها بمنطق الاستخفاف علي طريقة «هما عاوزين إيه». وعندما أتحدث عن الأقباط أتوقع من كثيرين أن يشيروا بالبنان إلي كبار رجال الأعمال والمتنفذين منهم ويقولون هؤلاء هم الأقباط، لكن الحقيقة غير ذلك، الحقيقة أن الأقباط والمسلمين في مصر هم «المواطن» المتوسط والغلبان، الذي يريد تعليم أولاده والذي يكد من أجل وظيفة ومستقبل ومن حقه أن يحلم ببكرة أفضل. لكن ما يحدث لا يبشر بخير، فقد دخلنا حالة استقطاب وممارسات دينية مزعومة تخفي عمق أزمة الانتماء التي يعيشها المصريون. فعندما تقتحم المجتمع المصري ثقافة الجيتو، ويلجأ الأقباط، مضطرين، إلي التركز في مناطق بعينها لأنها أكثر أمنا لهم وتسامحا معهم والنأي عن مناطق بعينها فهذا نذير شؤم( نموذج مناطق الزبالين في شرق القاهرة). وتكتمل الحلقة المشئومة في الزي والعادات في أماكن العمل والتعليم. فالموظفة المسيحية تراعي مشاعر الموظفات المسلمات (المحجبات) في الغالب داخل أروقة المكاتب، هم يعلقون الأدعية والآيات القرآنية ولا يعملون في رمضان، مثلا...، لكنها وبمنطق التدين المضاد، لا يمكنها تعليق صليب أو أيقونة، فتعود إلي منزلها وسيارتها لتملأها بالشعارات الدينية. كما أن المدارس الإبتدائية للعائلات المتوسطة تنسي أن بين أطفالها غير مسلمين ويجب مراعاة مشاعرهم وعاداتهم الدينية، وهذا لا يحدث غالبا،ليس في سياق المناهج التعليمية فقط بل في المعاملات اليومية، فيضطر القبطي إلي البحث عن مدرسة آمنة بها كثافة مسيحية وقد تكون بعيدة أو باهظة المصاريف لتعليم أبنائه مع التشديد علي حضورهم مدارس الأحد بالكنيسة ودروس اللغة القبطية، أما أماكن العمل فالسياسة المعلنة هي الغمز واللمز. وعندما يقتصر وجود الأقباط في البرلمان علي عينة منتقاة ولا يتم انتخابهم علي خلفيات دينية لمواقع مجالس النقابات، فهذا نذير شؤم، وعندما تخلو مقاعد الوظائف والمناصب الكبري من أسماء قبطية فهذا نذير شؤم وليس مسألة صدفة، وعندما يبعد الأقباط عن الكليات العسكرية والأمنية وكليات الطب سواء كان ذلك عن عمد أو لأن أساتذة متطهرين يريدون الثواب بإبعاد النصاري عن تلك المواقع، فهذا نذير شؤم أيضا بل وجريمة جنائية. لا نطالب هنا بالتمثيل النسبي أو التمييز الإيجابي الذي تطالب به بعض جماعات أقباط المهجر، ولكن نطالب بأن تعود الأمور إلي الماضي الجميل وإلي سياقها الطبيعي عندما تكون الكفاءة ومعيار المواطنة هي الأساس. عزلة الأقباط لا ينفصل ذلك عن انعزال الأقباط عن الحياة السياسية والعمل العام، بدعوي ما الفائدة؟ والواقع أن الأقباط والمسلمين لا يتحملون وزر ذلك بل يتحمله النظام، الذي وزع البلاد علي طريقة الأبعديات علي أنصاره وأزلامه، ووأد أمل كل حركة وحزب سياسي مشروع. ويبدو أن الحزب الوطني الحاكم يعتمد سياسة «الفزاعة» في تعامله مع الجماهير القبطية، إذ يشير دائما إلي وجود حركة «الإسلاميين» كطامع في الحكم فلا يجد الأقباط سوي تأييد النظام الحاكم رغم إدراكهم لفساده، وليس أدل علي ذلك مما نسب إلي البابا شنودة الثالث بابا الإسكندرية من تأييده لترشيح جمال مبارك للرئاسة . فإذا كان بوسع المصريين المسلمين تأييد الإخوان لأنها المعارضة الوحيدة بعد تفريغ الأحزاب السياسية من مضمونها وجعلها أكشاكا للبيع، فليس بوسع المصريين المسيحيين تأييد أحد سوي الكنيسة ومبارك، ليس حبا في علي ولكن كرها في معاوية. عندما يحن المصريون إلي صيغة الوفد التي صهرت عنصري الأمة فلهم كل الحق وعندما يحنون إلي دولة لا تنحني أمام الدعاوي الدينية فلهم أيضا الحق، فالحاصل أن النظام الذي يعلق شارة العلمانية والمدنية هو نفسه الذي يغازل المؤسسة الدينية ويحتكرها، وهو يفتح الباب أمام خصومه لاتهامه بالكفر عندما يتوقف عن تملقهم، هذا هو دأب النظام المصري في عهدي السادات ومبارك. فالنظام في الحالتين تملق التيارات الإسلاموية حتي اصطدم معها، واستغل الكنيسة لتأمين تأييدها، وهو يستغل الدين لإضفاء شرعية علي ممارساته بما يذكرنا بعصور الخلفاء والسلاطين في أوقات الانحطاط، مثال «ما علاقة المجلس الأعلي للبحوث الإسلامية والأزهر ببناء جدار فولاذي علي حدود قطاع غزة؟»؟ لا ينبغي أن يأخذنا ما يحدث الآن إلي استخلاص أن المسلمين يضطهدون الأقباط في مصر، فالضغوط الواقعة علي «المصريين الغلابة» متشابهة في الحالتين، لكن تأثر الأقلية بها سيكون أكبر في حالة الأقباط. كما أن التأكيد علي «الطبيعة المتسامحة» للمجتمع المصري لا يجب أن يعمينا أن مقدار التسامح والتعصب يرتبط دائما بقوة القانون. فالشخص المتسامح قد لا يجد مشكلة في سرقة عابرة أو تجاوز لإشارة المرور، لو ضمن أنه بمنأي عن القانون ولن يطاله العقاب، حتي في أكثر دول العالم تقدما. لكن سطوة القانون هي التي تغرس العادة وتنميها، وهو ما لا يحدث في مصر. فالعنف المذهبي لا يعتبر أولوية تستوجب سطوة القانون إلا إذا تقاطع مع أمن النظام. ولأنني صعيدي ونشأت في قرية يتقاسم المسلمون والمسيحيون سكانها، فبوسعي الزعم بأن سيناريوهات العنف المذهبي خاصة في الصعيد هي نفسها منذ بداية العهد الساداتي ومرورا بالعصر المباركي، وهما عهدان دشنا لعلاقة «حب - كراهية» مريبة مع التيارات الإسلاموية، لكن قبل 25 عاما مثلا، كان أحد أغنياء قريتنا من خريجي الجامعات، وبني منزلا علي قطعة أرض لا تطل علي الشارع الرئيسي، لكن كان أمامها قطعة أرض فضاء يملكها مسيحي وفاوضه علي شرائها، ورفض المسيحي لأنه كان سيبني عليها منزلا لأبنائه. لكن الغني بني منزله الأنيق وفي حسبانه أنه سيمرر شارعا إليه عبر قطعة الأرض، شاء من شاء وأبي من أبي، وعندما هم المسيحي ببناء أول جدار علي أرضه صرخ الغني وأقاربه أن «النصاري يبنون كنيسة جديدة» وأن هذا لا يجوز، فالبلد فيه كنيسة واحدة ومسجد واحد، وأن هذا سيغير موازين القوي، وتحركت الأرض وماجت بالثوار الذين هدموا الجدار وأعادوا الأرض فضاء بعد اشتباكات طائفية تدخلت علي اثرها قوات الأمن المركزي، لكن القضية انتهت بحصول الغني علي الأرض بثمن بخس. سيناريو آخر عندما أشيع أن عبدالتواب المسيحي له علاقة بامرأة مسلمة، هذه المرأة كان لها علاقة بنصف سكان القرية، ولكن أحد مغاوير القرية استغل تلك الحادثة ليعزز شعبيته ويلوذ عن شرف المسلمين، وقُتل عبدالتواب. فهل يذكركم هذا بالهجوم علي أراضي دير أبو فانا في المنيا، وأحداث ديروط، وفرشوط وأخيرا نجع حمادي؟ العالم يسير للأمام، ونحن نسير للوراء نحو الهاوية، وبكل ثقة.