حينما شاهدت ذلك الإعلان المنزوي في صفحة جريدة «الدستور» الأخيرة في أحد أعدادها تفاءلت خيراً، وأظن أن الأمر قد لاقي نفس رد الفعل عند من رآه من متابعي الجرائد المهتمين في مصر، فقد كان المرء ليحتار حقا وهو يشاهد صنوف الصحف المختلفة تتري أمام عينيه كل يوم بما حوت من عناوين جاذبة براقة يحتار المرء حيالها في تمييز الخبيث من الطيب وفرز الغث من السمين، فضلا عن العناء الذي يتكبده الأكثر اهتماما والمتمثل في «تفتيش» الصحف كافة واقتصاص بعض أوراقها التي يري مقتصها أنها من الأهمية بمكان بما يستحق حفظها - لأسباب تتنوع وتختلف - وما يتطلبه ذلك الاهتمام من متابعة عدد أكبر من الجرائد مما يهدر من الوقت والجهد ما قد يجعل إثم هذه المتابعة أكثر من نفعها، فضلا عن مشكلة حفظ وترتيب هذه القصاصات المفرقة والمعرضة للضياع بسهولة، أضف إلي ذلك كله العناء المادي الذي يتطلبه هذا الاهتمام جاءني - كما جاء كل هؤلاء - الحل في ذلك الإعلان الصغير المشار إليه آنفا عن تلك المجلة الصادرة حديثا والتي لخصت رسالتها في أنها «تضم بين دفتيها أقوي وأهم وأفضل ما نشر في الجرائد والمجلات المصرية والعربية والأجنبية في جميع الفنون الصحفية من أخبار وتحقيقات ومقالات لأهم الكتاب والصحفيين المصريين والعرب والأجانب» و«تنشر لكل الاتجاهات الفكرية والسياسية دون حجر أو توجيه أو تحيز أيديولوجي معين» وقد كانت المجلة - مجلة شارع الصحافة - صادقة كل الصدق، ولك أن تتخيل صديقي القارئ ما جلبته لنا هذه المجلة خلال عمرها القصير، يمكن القول إنك وببساطة يمكنك - دون مبالغة - رصد حالة المجتمع المصري خلال ذلك الشهر من خلال عدد المجلة، فكل ما نشر عما شغل الرأي العام وأهم قضايا المجتمع قد رصدته هي بحيث تصبح أرشيفا لا للصحافة فحسب؛ وإنما للمجتمع المصري بكامله، وجبة صحفية شاملة كاملة متكاملة بحق، ففضلا عما وفرته لنا من وقت وجهد كبيرين أتاحت لنا الاطلاع علي صحف أخري ربما لم نكن نعرف عنها يوما إلا اسمًا وأصبحت أنا لا أعاني من حيرتي اليومية أمام كشك الجرائد فكلما جذبني عنوان مهم - أو يبدو مهماً- لم أعتصر ذهني ولا تحسست جيبي ولا حسبت حساباتي لشراء الجريدة فمجلتي العزيزة ستهديني إياه آخر الشهر، لقد شعرت حقا أني كنت منعزلا عن الصحافة المصرية من كم التحقيقات والمقالات التي كانت تفوتني كل شهر واقتصاري علي صحيفة واحدة أو اثنتين، ميزة أخري من مزايا تلك المجلة والتي لن تجدها ولو اشتريت كل الصحف هي أنها تجمع أهم ما كتب في الصحف كلها في موضوع ما في ملف واحد لديها علي صفحات متتابعة تقرؤها أنت دفعة واحدة لتكوّن فكرة كاملة عن الموضوع، تقرؤها متصلة دون تشتيت الذهن المتولد عن قراءة الموضوع في صحف عدة، محفوظة حفظا أنيقا في مجلة دون الحاجة إلي اقتصاص الأوراق وترتيبها، وربما جمعت صفحة واحدة بين مقال لإبراهيم عيسي وآخر لعبد الله كمال، وأي قارئ عادي كان من الممكن أن يجمع حقا بين كتابات الرجلين! لم تعد عزيزي مضطرا إلي الحيرة اليومية أمام كشك الجرائد ولا إلي اقتصاص صفحاتها ولا إلي إهدار وقتك وجهدك وكذلك مالك، فتلك الوجبة الصحفية تكلفك شهريا اتنين جنيه وبس، تخيل صديقي القارئ أن بإمكانك متابعة الصحافة المصرية بل المجتمع المصري في شهر بأقل من سعر علبة كليوباترا. المؤسف أن كل ما قلته لك الآن يعد من قبيل الرثاء والبكاء علي أطلال ذلك الشارع الذي لم يكتمل بناؤه ويشتد عوده فلقد انقطعت المجلة، ظللت أشهراً بعد انقطاعها أنتظرها، أقول لعلها لم تصل إلي مدينتي الصغيرة كما حدث مع أول عددين لها، بيد أن الغياب طال فلم أجد بدا من سؤال البائع الذي فاجأني بانقطاعها التام، عدت وأنا غير مصدق، هل أعود ثانية لإهدار وقتي وجهدي ومالي بعدما استبشرت أخيرًا بزوال ذلك العهد؟ ما أحنقني أكثر ذلك الإهمال والبرود اللذان قوبلت بهما المجلة من قبل الوسط الصحفي ذاته فلا هي استقبلت بالاحتفاء المطلوب عند صدورها ولا هي وُدِّعت بالاهتمام المطلوب عند توقفها، حتي الأستاذ خالد السرجاني الذي عودنا الاهتمام بكل قضايا ذلك الوسط في الصفحة التي يحررها أسبوعيا في جريدة الدستور وتعريفنا بحقوقنا كقراء لم يكشف لنا - أو لا أذكر أنه كشف لنا - عن أبسط حقوقنا بشأن تلك المجلة وهو أسباب وظروف توقفها المفاجئ.. الصحفي النشيط كذلك في شئون الوسط الصحفي «أشرف شحاتة» «رئيس تحرير موقع شبكة الصحفيين العرب» لم يبد اهتماما بالأمر، حينما سألته عن سر توقفها المفاجئ أجابني أنها «أزمة مالية» سألته لماذا لم يكتب عن الأمر فأجاب «خلاص نشوف الموضوع ده ونعمل حوار مع رئيس تحريرها»، وهاأنذا في انتظار حواره ذاك. انهدم شارع الصحافة - كما بُني - في صمت مطبق، توقف مجلة شارع الصحافة جريمة في حق الوسط الصحفي الذي كانت المجلة تؤرخ وتؤرشف - إن صح الفعل - لأهم ما ورد فيه قبل أن تكون جريمة في حق القارئ المصري، وإن أقل كفارة وأضعف الإيمان الواجب الآن علي القراء والصحفيين ونقابتهم - وربما الدولة كذلك إن كان ثمة فائدة ترجي من توجيه النداء لها - أن يقوموا بتقديم الدعم اللازم لتلك المجلة حتي تقف علي قدميها من جديد ويشتد عودها ويصلب بناؤها خاصة أننا نحتاجها بشدة في خضم هذه الأحداث الساخنة التي تمر بمصر في هذه الفترة، وأخيرا أختم بالقول إني لست بمنأي عن التقصير كذلك، إذ تأتي كلماتي تلك بعد حوالي عام من علمي بتوقف المجلة!