أدعوك عزيزي القارئ لأن تتذكر دائماً النصيحة الخالدة التي أسداها «المعلم ضبش» الشهير بالفنان حسن حسني لتلميذه «سلطان» المعروف بالفنان هاني رمزي خلال أحداث الفيلم الكوميدي «غبي منه فيه»، فبعد أن تأكد لضبش أن غباء تلميذه يفوق الحدود، وأنه لا يصلح أبداً للعمل كحرامي محترف نظراً لغبائه الشديد كان اقتراحه العاقل بأن يبحث عن عمل يناسب قدراته المتواضعة، وكانت نصيحته الخالدة لتلميذه بأن يعمل مهندساً أو أن يفتتح عيادة طبية.. هذا المشهد الكوميدي القصير يقفز أحيانا إلي حيز تفكيري ويسيطر كثيراً علي عقلي كلما مرت بنا الأزمة تلو الأخري، فبعد أزمة مياه النيل التي تهدد حصة مصر بالتناقص والتي أخذتنا العزة بالإثم فأغفلنا الاهتمام بها وأهملنا لسنوات طويلة علاقاتنا السياسية والاقتصادية بإفريقيا عموما ودول حوض النيل علي وجه الخصوص حتي وجدنا أنفسنا أمام أزمة تهدد بقوة حاضر مصر ومستقبلها، أطلت علينا ومع قدوم شهر رمضان أزمة أكثر إلحاحاً وهي أزمة القمح بعد توقف روسيا عن تصديره للعالم نظراً لانخفاض المحصول بسبب الحرائق والجفاف الشديد، وهي أزمة تأتي مصر في مقدمة المتضررين منها ويُتوَقع أن تُكلف خزانة الدولة ما يقرب من خمسة مليارات جنيه علي الرغم من أنه لا يمكن اعتبارها مطلقاً أزمة طارئة أو غير متوقعة فقد حذرت الجامعات المصرية - كما يقول الدكتور الشافعي بشير في مقاله بالدستور - من التعرض لمثل هذه الأزمات وخاطبت - كما يقول سيادته- الرئيس مبارك شخصياً علي مدار ربع قرن بضرورة تحقيق الاكتفاء الذاتي من القمح وتجنب شرور الأزمات العالمية التي تؤثر في إنتاجه وفي ارتفاع أسعاره كما يحدث حالياً ولكن دون جدوي. ورغم أن الأزمة مازالت في بدايتها وعلي الرغم من تأكيدات السادة المسئولين بأنه قد تم تجاوز الموقف والتعاقد علي شحنات جديدة من القمح الفرنسي والأمريكي فإن السوق المصرية التي تتميز أصلا بالارتباك الشديد تشبثت سريعا بالانفلات فهاجت الأسعار وماجت وأعلن التجار والمصانع أسعاراً افتراضية جديدة لما هو موجود فوق الرفوف أو داخل المخازن فنزلت هذه الأسعار سياطاً رمضانية جديدة تلهب ظهر المستهلك المطحون فلم تعد تجدي معها تصريحات المسئولين المطمئنة، ولا يمكن أن تعيدها للصواب شحنات القمح الأمريكية أو حتي الروسية ولو عادت فالسوق المصرية كعادتها علي الدوام تتميز بمنتهي الحساسية والتفاعل تجاه الأزمات ومنتهي الطناش والاستهبال عند تجاوزها. يروي الدكتور صلاح جودة الخبير الاقتصادي أن الدكتور يوسف والي نائب رئيس الوزراء ووزير الزراعة الأسبق قد أدلي بتصريح في يناير 1982 للسيد مكرم محمد أحمد رئيس تحرير مجلة المصور وقتها تعهد فيه بتحقيق الاكتفاء الذاتي من القمح خلال ثلاث سنوات، وعندما عاد الأستاذ مكرم في عام 1987 ليذكّر الوزير بما قطعه علي نفسه أكد سيادته أن الظروف والمتغيرات حالت دون الوفاء بالوعد وإنه يحتاج إلي عامين آخرين لتحقيق ما وعد به، ولكننا وبعد مرور أكثر من ربع قرن لم نحقق الاكتفاء الذاتي من القمح ولا نفكر في ذلك، بل نعيش أزمة حقيقية كان من السهل تجنبها في بلد كان يوماً ما يمثل سلة غلال العالم القديم. إن مراجعة سريعة لسياسات الحكومات المصرية المتعاقبة ونظرة متأملة أو متألمة لما تعانيه مصر من انهيار ملحوظ في جميع المجالات تؤكد أن الحزب الوطني قد تعلم في «مدرسة ضبش» وأن معظم المسئولين في حكوماته كانوا من تلاميذها.. مدرسة طالما رفعت شعار تطوير التعليم فتبنّاه بمنتهي الإخلاص وزراؤها المتعاقبون وأدلي كل منهم بدلوه فأحل ما حرمه غيره وحرّم ما أحله سابقوه حتي انهار التعليم تماما وتحول التطوير بقدرة قادر إلي تدمير.. مدرسة تتاجر بصحة المواطن المصري ويؤكد مسئولوها المتعاقبون حقه الدستوري في العلاج الملائم وعن مد مظلة الخدمات الصحية والتأمين الصحي لتشمل جميع المواطنين فإذا ما سقطت الأقنعة وظهرت الرؤيا بدا التأمين الصحي أكذوبة والعلاج علي نفقة الدولة مجرد سبوبة. لقد أثبت البعض من تلاميذ المعلم ضبش نبوغاً وتفوقاً فأداروا عمليات الخصخصة واستولوا علي المال العام ونهبوا أراضي الدولة وحولوها إلي عزب خاصة كان آخرها جزيرة آمون التي أنقذها السيد الرئيس، بينما رسب البعض الآخر في امتحان القدرات فحقت عليهم النصيحة الخالدة «افتح لك عيادة.. أو اشتغل مهندس.. أو امسكلك وزارة».