بعد صراع مع المرض توفي المأسوف علي تفاهته «الإعلام العربي» بعد أن انتشر «سرطان الإعلام» في كل خلية بجسده العليل وسوف يقتصر العزاء علي السادة الحكام العرب وأصحاب شركات الإعلان. أسعفتني هذه العبارات وأنا أبحث عن كلمات مناسبة تصف الحالة المزرية لقنوات التليفزيون العربية الرسمية منها والخاصة علي السواء، فوجدت أن هذا النعي هو التعبير المناسب لحالة التليفزيون العربي بكل قنواته العامة والمتخصصة مع استثناء شديد التواضع يتمثل في القنوات المتخصصة في الأخبار، وهذا الاستثناء لا يعني أن هذه القنوات التي لم يقتلها «سرطان الإعلام» قد برئت من العلل، لكنها أصيبت بالعديد من الأمراض الأخري، وأهم هذه الأمراض هو «التضخم الدعائي» و«الاحتباس الخبري» الذي يحول هذه القنوات إلي مسخ دعائي ساذج لشخص الحاكم وحرم جماهير المشاهدين من التدفق الحر للأخبار. هذه الحالة الأولي التي توفي فيها «الإعلام العربي» تماماً تظهر بجلاء خلال شهر رمضان من كل عام. وفي العامين الأخيرين كانت أكثر وضوحاً، فسرطان الإعلام، تجاوز شاشات القنوات التليفزيونية ليملأ شوارع المدن بالإعلانات الضخمة عن المسلسلات «الحصرية» وغير الحصرية وعن نجوم هذه المسلسلات والبرامج بالغة التفاهة!! أما الصحف فقد التهمت هذه الإعلانات صفحاتها وتحولت هذه الصحف حتي الصحف الحكومية إلي صحف إعلانات. هذه الظاهرة يفسرها البعض بأنها نتيجة للمستوي المتدني مهنياً لقيادات هذه القنوات، وهذا التفسير لا يستريح له كثيرون يرون أن الحكم علي جميع القيادات بعدم الكفاءة فيه الكثير من الظلم وعدم الدقة، فبين هذه القيادات من يتمتع بقدر معقول من الخبرة والقدرة علي تقديم «إعلام» جيد. العلة الحقيقية في تصوري هي في أهداف مالكي هذه القنوات سواء كان المالك «الحاكم» الذي يري أن مؤسسات الدولة يجب أن تسخر جميعاً لتمكينه من السيطرة المطلقة علي الجماهير ومن ثم يستخدم الآلة الإعلامية المملوكة للدولة للدعاية لشخصه من ناحية ولتضليل الجماهير وخداعها لتظل مستسلمة لسطوته ولتغييب عقلها بكل ما يعطل تفكيرها عن التأمل في حالة البؤس والقهر التي تعيشها، وبنفس المنطق يتعامل أصحاب القنوات الخاصة مع الإعلام باعتباره الوسيلة التي تجمل وجههم وتدافع عن مصالحهم في مواجهة مصالح الجماهير المتعارضة مع الكثير من سلوكياتهم التي لا تتورع عن استخدام كل الطرق لنهب ثروات الشعب. أهداف أصحاب هذه القنوات «حكومية وخاصة» تتوافق علي تغييب وعي هذا الشعب بشتي الوسائل، ومن هذه الوسائل الناجحة والتي أثبتت أنها الوسيلة المثلي لتغييب وعي الشعب وإلهائه عن مشكلاته الحياتية القاسية، تقديم أكبر كم من الالأعمال الدرامية خاصة المسلسلات التي تلتهم كل ساعات النهار والليل ولا تدع للمشاهد أي فرصة ليتأمل فيها حالة البؤس والشقاء التي يعيشها، يكفيه أن يستسلم طوال ساعات يقظته إلي متابعة أحداث المسلسلات التي تزعزع عواطفه بانتصار «الفقراء» والضعفاء علي الأثرياء وأصحاب النفوذ، فيعشر المشاهد بسعادة وهمية وكأنه هو البطل المغوار الذي انتصر علي مستغليه!! أو تستخدم وسائل «الإثارة» التي تتجه إلي الغرائز الدنيا للمشاهد فتدفعه إلي عالم من «اللذة» الخيالية التي تحقق له نشوة زائفة لا تختلف عما تحدثه «المخدرات». وعندما تقترن هذه الحالة من تغييب الوعي وإيهام المشاهد بالعيش في عالم من السعادة والنشوة الافتراضية، عندما تقترن هذه الحالة بحصار المشاهد بآلاف الإعلانات التي تروج لسلع ترفيهية تسلب المشاهد المبالغ الهزيلة التي يملكها بالإغراءات الضاغطة للإعلانات، فمعني هذا أن مالكي هذه القنوات التليفزيونية «حكاماً ورجال أعمال»، قد تمكنوا من تحقيق أهدافهم بتغييب وعي الجماهير وإقناعها بالاستمتاع بنشوة نصر زائف أو العيش في حالة أحلام يقظة تمنح صاحبها سعادة وهمية، ويضاف إلي ذلك استنزاف هذه الجماهير مادياً حتي تفقد القروش القليلة التي يمكن أن توفر لهم الحد الأدني من الحياة، وبذلك تظل هذه الجماهير في حالة فقر مدقع وتظل تحيا تحت ضغط هائل من عدم امتلاك الحد الأدني من المقدرة المالية التي تمكنها من توفير متطلبات الحياة الضرورية. وفي هذا السياق أذكر أن مثلاً شعبياً ينسب إلي «الحكام» وأظنه ينطبق أيضاً علي المستغلين من رجال الأعمال، هذا المثل ينسب إلي أحد رجال الحاشية لحاكم مستبد قوله «جوّع كلبك يتبعك» والإشارة هنا صريحة إلي الشعب الذي تري النصيحة أنه إذا جاع ولم يجد قوته فسوف يستسلم للحاكم بحثاً عن لقمة يلقيها له هذا الحاكم ليسد بها رمقه وحتي يستطيع أن يبقي علي قيد الحياة. أعرف أن البعض سيري أنني أبالغ في تقييمي لما يحدث وأنهم سيرددون التبرير الذي يكررون تقديمه وهو أن الجماهير تقبل بشغف علي مشاهدة هذه المسلسلات وأن مهمة أي جهاز إعلامي هي تقديم المادة التي تجذب الجماهير، وهذا التبرير أراه من قبيل كلمة الحق التي يراد بها باطل فلا شك في أن هدف أي قناة تليفزيونية هو جذب أكبر نسبة من المشاهدين، غير أن المهم هو تحديد «الهدف» من جذب هذه الجماهير. في تصوري أن الإعلام يجب أن يحدد بكل وضوح هدفه من جذب الجماهير، وأن يطمئن إلي أن الهدف الذي يتوخاه يصب في اتجاه تنوير الجماهير والمساهمة في تنمية وعيهم والارتقاء بأذواقهم وبهذا المنطق فإن القيادة التي تخطط لإعلام محترم عليها أن تضع في حساباتها تأثير المادة الجذابة التي تقدمها للجماهير. ولو أننا سلمنا لدعاة جذب الجماهير بأي وسيلة ودون الالتفات إلي الهدف من جذب هذه الجماهير فإننا بذلك نعطي شرعية مهنية للقنوات التي تقدم الأعمال الإباحية، وقنوات الجنس والقنوات التي تدعو إلي التعصب الديني والمذهبي والعرقي والقنوات التي تروج للدجل والخرافة.. وهذه كلها قنوات تقدم مواد تجذب ملايين المشاهدين! يبقي أن أؤكد أن هذا العبث التليفزيوني الخطير يضيف إلي ما سبق وذكرته عن تغييب وعي الشعب واستنزاف قروشه القليلة تأثيراً بعيد المدي وهو التسبب في نقص كبير في الإنتاج القومي يزيد من الأزمة المالية المستحكمة ويدفع الثمن كالعادة هذه الجماهير الكادحة المغيبة والمستنزفة.