في عمر الخمس سنوات وربما أقل قليلاً، كانت تخاف من الظلام، كانت تعيش في مدينة صغيرة ينقطع فيها التيار الكهربي يوميًا، وكان البيت واسعًا ( أو هكذا كانت تشعر ) وكانت دورة المياه بعيدة عن حجرة الجلوس، ضوء الشموع يصل إلي منتصف الصاله الواسعة ثم يهزمه الظلام، داخل دورة المياه ظلام حالك، كانت الرحلة شديدة الصعوبة، وكانت أمها تجبرها علي الذهاب بمفردها. وكانت تتحامل علي نفسها إلي درجة البكاء. وكانت أمها تتجاهل دموعها وتزداد إصرارًا. عندما قرر الأب والأعمام الانتقال إلي بيت الجد الكبير في العاصمة بعد اكتمال بنائه. كانت أمها ترقص من فرط السعادة، سمعتها تقول لزوجة عمها الحزينة لفراق بيتها القديم وجيرانها: ( يا ستي ابقي تعالي زوريهم .. إن افتكرتيهم أصلا .. كفاية ربنا هيتوب علينا من الضلمة.. أنا لما النور بيتقطع باحس إني روحي بتطلع). بعد سنوات واتتها الشجاعة وسألت أمها ( هو إنت ياماما بتخافي من الضلمة؟) أجابت الأم إجابة مراوغة: ( أنا مش بخاف. بس باكره الضلمة). شعرت بضعف ما في صوتها ومراوغتها فازدادت جرأتها: ( وهو في حد بيحب الضلمة. كل الناس بتكرهها. بس إنت بتخافي. قولي قولي ما تتكسفيش. بتخافي مش كده ؟) ضحكت وأخفت وجهها خجلاً واعترفت: (أيوه بخاف م الضلمة، وبخاف م الوحدة، وبخاف م الناس الأغراب، وبخاف من الفيران، وبخاف من الكلاب والقطط ) قالت: ( الله .. طيب ما بتخافيش من إيه ؟ ). السؤال الذي لم تعرف إجابته أبدًا كيف نجحت هذه الأم الخائفة من كل شيء أن تخفي خوفها علي طفلتها، وتحميها من الخوف نفسه. أليست هي قاعدة معروفة أن فاقد الشيء لا يعطيه ؟! رحلات الذهاب إلي دورة المياه في الظلام الدامس جعلتها علي العكس من أمها تماما، لا تخاف أي شيء، بل أحيانًا ما تبالغ في الشجاعة فتصبح مغامرة. في الليلة الأولي بعد أن انتهي العزاء وذهب كل حي إلي حاله، أغلقت باب بيتها لأول مرة وحدها لم تعد أمها معها في الدنيا كلها. ملأها الخوف .. الخوف لا الحزن .. تسارعت ضربات قلبها وجف حلقها وضاق صدرها، شعرت أن روحها بتطلع تماما كما كانت تصف أمها شعورها تجاه الظلام. لم يكن خوفها بسبب الوحدة، فقد اعتادت أن تسافر وحدها وتعيش في بلاد غريبة وحدها، في بيوت واسعة وحدها. كان وقتها مشكلتها الوحيدة أن أمها تخاف من الوحدة فكانت تطلب من أختها أو ابنتها الانتقال للحياة مع أمها حتي تعود. كل مرة كانت تقول: (معقول يا ماما تخافي في بيتك، وأنا ماخافش في الغربة). فتضحك وتخفي وجهها خجلا. الآن.. هي الخائفه في بيتها!