إذا كان هناك فريق من الروائيين، يميلون إلي الإخلاص المتشدد لما يكتبون من أدب، فلا يقتربون أبدا من الكتابة الصحفية خوفا من أن تستنزف طاقتهم الإبداعية، فإن الفريق الثاني يتحمس وينفعل بكتابة المقالات الصحفية من منطلق ضرورة ألا يعيش الأديب منفصلا عن واقعه، وأنه لايصح أن يكون البلد مشتعلاً وهو منغلق علي ذاته يكتب لقرائه، وإذا كان الروائي الكبير «إبراهيم عبدالمجيد» قد اختار الانضمام للفريق الثاني منذ سنوات، فإن إصدار كتابه «السبت فات والحد.. فات» الذي يضم أكثر من خمسين مقالا كتبها بامتداد سنوات، يؤكد انحيازه، لضرورة أن يتعارك الأديب - صحفياً - مع الدنيا وبلاويها. لكن المقالات مع إبراهيم عبدالمجيد، لا تخلو أبداً من اللمسة الأدبية، خذ مثلا مقال «النسيان» الذي يبدأ فيه بالحديث عن نعمة النسيان راويا قصة لكاتب روسي تتحدث عن شخص يشعر بالأذي لأنه ينسي الأشياء، حتي يصحو يوما وهو يتذكر كل الأشياء فانهالت عليها الذكريات حتي انفجر رأسه، يلتقط إبراهيم عبدالمجيد الخيط من هنا ثم ينطلق: «بالنسبة لشخص من جلي مثلا ممكن جدا بسهولة أن تنفجر رأسه إذا تذكر السنوات التي مضت علي مصر والمصريين منذ ثورة يوليو. فعلي سبيل المثال سيتذكر أن عمره كل مضي عبر ثلاثة رؤساء جمهورية. ولولا أن الله شخصيا تدخل وأمات الأول ثم سلط شخصا قتل الثاني كان عمره كله قد مضي في رئيس واحد»!، سخرية لاذعة ولكنها تمر بين السطور بنفس هادئ غير زاعق يميز الكتاب. أما ما يجعل الكتاب حميميا، هو ذلك الحنين إلي الجمال والزمن الرائق، الذي لايزال يعيش في رأس المؤلف وكيانه، فينقله بإحساس صادق إلي جيل جديد مسكين لم ير أي قبس من هذا الجمال، يتضح هذا مثلا في مقال «خطابات الغرام هل تتذكرونها» و«الشتاء» الذي يتحدث فيه عن أنه كيف وهو السكندري لم يشعر أبدا ببرد الشتاء إلا عندما جاء إلي القاهرة في شتاء 1974. علي أن الكتاب ليس أغنية للماضي مطلقا، بل إن معظم مقالاته مشتبكة تماما مع حاضرنا «السعيد» الذي نعيشه، لكن النقطة اللامعة دوما تكون في الربط بين ما فات وما نحن نعيش فيه الآن، ففي مقاله «عن المرأة التي لانعرفها» يتحدث «إبراهيم عبدالمجيد» عن تلك المرأة التي عينها الاحتلال الفرنسي حينما حل بونابرت بحملته علي مصر عام 1798، ولم تكن وظيفة المرأة هذه سوي أن تمر علي البيوت والشوارع لتجبر السيدات علي عرض المفروشات والمراتب في الشمس لتقتل البكتيريا والأوبئة، وذلك لأنه حينما دخل بونابرت مصر لم يكن عدد سكانه يزيد علي مليونين بسبب انتشار القذارة والأوبئة، وأدرك الرجل أن الحل في النظافة فكانت المرأة التي تحث السيدات علي «تهوية المراتب»- واضح إذن أنها عادة فرنسية وليست مصرية أصيلة كما كنا نتصور!-، يقول كاتبنا الكبير إبراهيم عبدالمجيد معلقا:«نحن في حاجة شديدة إلي تعيين إمرأة علي رأس كل شارع لا لكي تضرب النساء أو تعبطهن كما كان يحدث ولكن لكي تأتي مرة علي الأقل كل أسبوع بمسئول الحي أو مسئول النظافة في الحي وتربطه إلي عمود نور وتطلب من الرجال والشباب وأطفال الحي أن يقوموا بعبطه وضربه بالعصي والخيرزان حيث يكره»- فكرة وجيهة فعلا لكن أين لنا بهذه المرأة الشجاعة؟! حتي عنوان الكتاب «السبت فات والحد فات»، اختاره «إبراهيم عبدالمجيد» بعناية وقصدية واضحة، متسائلاً: «السبت فات والحد فات وبعد بكرة يوم التلات. أغنية شهيرة للمطرب الجميل الراحل محمد عبدالمطلب. والسؤال هو في أي لحطة من الزمن يقف ويعلن ذلك بصوته القوي المليء بالشجن.. لابد أنه يغني يوم الاثنين لأنه يقول الحد فات في هذه الحالة لا يكون بعد بكرة يوم التلات إذا هو يغني في لحظة من الزمن بين الأحد والاثنين ولا توجد خارج الزمن أي لحظات.. إذن هو يغني خارج الزمن هذا هو التفسير الوحيد وهذا هو حال حياتنا في مصر للأسف. القضية إذن جادة ولكن الحقيقة مسخرة».. هذه هي الحقيقة فعلا التي يؤكدها هذا الكتاب الممتع كصوت عبدالمطلب حتي وهو يغني «خارج الزمن».