بعد طول تفكير أعقبه بحثٌ دءوب في مخزوني اللغوي لا أجد أفضل من كلمة البلادة تصلح توصيفاً للعقود الثلاثة الماضية...كلمة تصف المنهج والأسلوب والوجوه والسمة والحالة النفسية... حين يموت الناس البسطاء شواءً في قطاراتٍ تحولت إلي مصاهر، وغرقي في كل البحور فراراً من الوطن، ومن فقرٍ أسود ثم لا تقوم الدنيا فلا تقعد بحثاً عن السبب... وحين لا تستقيل الحكومة أو حتي وزير بل تصبح المشكلة مشكلة الضحايا وينظر إليهم كحمقي ومجرمين فهذه بلادة. حين تتنازل مصر عن دورها العالمي ثم الإقليمي والآن يُهدد النيل، ذلك الشريان الذي لا حياة بدونه، ثم يخرج علينا أحد أبرز مسئولي النظام ليعلن علينا أن حكومة حضرته لا تستطيع أن تحل مشكلة تلال الزبالة فإننا نتعجب من هذه البلادة! حين يراهن النظام علي محور أمريكا-إسرائيل، ويسخر عضلاته للعب لا دور الشرطي ( فهذا تقوم به إسرائيل) وإنما دور المخبر أو بلطجي الصالات ثم لا يكون جزاؤه علي الرغم من كل ذلك سوي الاحتقار من كليهما، وأمام كل ذلك لا تثور بقية باقية من تلك الحفرية المسماة " كرامة" فيطق النظام أو حتي يحدث رابع المستحيلات فيمضي أو حتي يغضب بغنج ودلع علي طريقة «يتمنعن وهن راغبات» من باب حفظ ماء الوجه، كل هذه من سمات البلادة. حين يمزق الفقر والعنف المجتمع ثم يغنون علينا بارتفاع معدلات التنمية فهذه أيضاً بلادة. حين يزورون الانتخابات بمنهجية في كل مراحلها ثم يقسمون علي نزاهتها ويزايدون علي شفافيتها بعيون واثقة، هذه أيضاً بلادة. حين يقتل شاب بوحشية ثم يرفضون أن يقدموا اعتذاراً بسيطاً أو يضحوا بمخبرين من جيش مخبريهم، ثم يخرج علينا أحد فريق الدفاع ليكذب عيوننا واصفاً ما لحق بالشاب بالكدمات البسيطة والرضوض!!! أليست هذه قمة الوقاحة والبلادة؟! إثر هزيمة 1967 شاب الرئيس جمال عبد الناصر وطفح الحزن علي وجهه، ذلك لأنه كان لديه دم...وحين تقارن ذلك بصحح وجهاء النظام الموفورة فلن تجد لذلك سبباً سوي استحواذهم علي قدرٍ هائلٍ من البلادة! في حين كان الرعب يخض الخواجات لدي رؤيتهم صورة خالد سعيد في مظاهرة في لندن تنديداً بالتعذيب، كان العرب اللطفاء يسألون بدورهم من بين أنفاس الشيشة عمن يكون صاحب الصورة، وحين كانوا يعرفون، فقد كان ردهم الذي يكاد يتكرر بلا استثناء (من بين أنفاس الشيشة أيضاً) : وأين المشكلة؟ أهو أول من يقتل؟!...كل يوم يقتل الكثيرون، فعلام هذه الضجة؟! ...حين تهان شعوب ويقتل أفرادها بغياً وعدواناً علي أيدي أنظمتها ولا تدرك هذه الشعوب ولا تشعر بفداحة الجرم فهذه أيضاً قمة البلادة!! يمنعني من الاستفاضة في تنويحة البلادة هذه عدد الكلمات المصرح بها وأن للحديث بقية.. من السهل أن نصم شعوبنا بأنها "زبالة" مجبولةٌ من طينة بليدة زنخة كما يذهب الكثيرون، إلا أننا بذلك لن نعدو أن نكون بليدين نحن الآخرون، مغفلين، سبب هذه البلادة... كون النظام بليدا لا يشعر فهذا لا جدال فيه موثق بجميع مواقفه " العرة النصف كم"... إلا أنها ليست مجرد طبع، فالغرض منها هو بث صورة القوة الطاغية التي لا يهزها حدث أو كارثة؛ لقد منهج هذا النظام منذ أكثر من ثلاثين سنة البلادة وعممها أسلوباً للحكم.. والرسالة هي «نحن باقون مهما حدث!!...نحن قدركم!!» إذن فالغرض هو تيئيس الشعب من احتمال التغيير، وقد استغل في ذلك الإعلام بما لا يحصي من القنوات تبث مضموناً متخلفاً حقيراً يرسخ عبثية المقاومة ويطرح عوالم بديلة ووهمية من أزمنة مجد غابر أو ثراء فاحش..كل ذلك مشفوع طبعاً بدرجة عالية من احتمال للجماعات المحظورة-العلنية وخطابها، كونها تشبه مدخنة مصنعٍ محكمة التصميم وطويلة للغاية تطرد كل السخونة والضغط بعيداً عن سماء وفضاء النظام. للأسف نجحوا ويئس الناس وتبلدوا كما خُطط وأُريد لهم، وحولوا غضبهم إلي بعضهم البعض في شماتات لدي المصائب وقتلٍ واغتصاب وفتاوي أعجب من العجب. إلا أن ذلك القدر الشائع من البلادة لم يعد يكفي... فالنظام، ببلادة، تمادي كثيراً ولم يعرف أين يتوقف والناس بدورها ضجت ولم تعد تتحمل، وعلينا أن نراقب ما ستسفر عنه الأيام المقبلة الواعدة بالسخونة من كسرٍ للبلادة.