لم يتيسر لي معرفة تراث الشهيد سيد قطب الثقافي والفكري والعلمي، إلا بعد استشهاده بسنوات، وكنت قد قرأت كتابه «العدالة الاجتماعية في الإسلام»، الذي أصدره عام 1947 في العهد الملكي، مترجماً إلي اللغة الإنجليزية حين وجدته، قدراً، في مكتبة نيويورك، وأنا أبحث عن مراجع لبعض مواد دراستي في المسرح. وكان ذلك عام 1965، وكان اسم سيد قطب كفيلاً بإلقاء الرهبة في القلب والإحساس بالخطورة، ذلك لأنني من الجيل الذي ومنذ وعي، لا يعرف اسم سيد قطب إلا متهما ومداناً وراء القضبان. أمسكت بالكتاب أقرأه لأعرف أبواب الخلل في فكر هذا المتهم بالتخريب والإرهاب والتآمر علي أهداف «ثورة يوليو 1952»، والتي كما كانوا يقولون، تسعي لتحقيق «الاشتراكية العربية» الرامية إلي «العدالة الاجتماعية». لم أصدق عينيَّ ودعوة الكتاب منذ 1947 تندد بالظلم الاجتماعي، وتؤكد ضرورة صياغة «اشتراكية» نابعة من العقيدة الإسلامية. أدق بيدي علي صفحات الكتاب وأقول لأصدقائي: هذا رجل نطق بكلمة العدالة الاجتماعية في العهد الملكي، وقت أن كانت الاشتراكية تعد من مفردات الكلمات القبيحة! لم أفهم بتاتاً كيف يمكن لمثل هذا الكاتب أن يكون «هو» من أعداء «أهداف» يوليو 1952، وكيف يمكن أن يكون متآمراً علي مصالح شعبنا الفقير، بينما كنت أري أمامي موفدين من قبل نظام الحكم الناصري يبعثرون «العملة الصعبة» في تفاهات وشراء سلع استهلاكية، يعودون بها من «أمريكا» إلي أرض الوطن المزروعة بلافتات الصراخ ضد الإمبريالية الأمريكية ؟! في 7 أغسطس 1966، عدت إلي مصر بعد غيبة ست سنوات متواصلة، قضيتها في الدراسة والعمل بالولايات المتحدة، ذهبت أتفقد أصدقائي أسلم عليهم، وكان من بينهم الكاتب أحمد بهجت بمبني الأهرام القديم، بشارع مظلوم بباب اللوق، وجدته واجماً يهمس: «اليوم تم تنفيذ حكم الإعدام في سيد قطب»، لعله كان يوم 20 أغسطس 1966، بلعت غصتي، وتذكرت مآسي ومحن السابقين من الكتاب والمفكرين والمجتهدين، الذين نكل بهم الطغاة الأغبياء الجهلة، من المعروفين أو المجهولين، في قوائم وسجلات أمة الإسلام المليئة بوجع القلب. ظلت كتابات سيد قطب ممنوعة ومحظورة طوال المرحلة الناصرية من 1954 حتي 1970، لا تتوافر قراءتها لجيلي من مواليد الثلاثينيات حتي جاءت مرحلة حكم أنور السادات، حين بدأ تدريجياً السماح لدور النشر بالإفراج عن عمله الموسوعي الجليل في تفسير القرآن الكريم «في ظلال القرآن»، الذي مكنه الله سبحانه وتعالي بما يشبه المعجزة، من تنقيحه ومراجعته وزيادته، قبل استشهاده في ظروف المرض والتعذيب والآلام المبرحة في سجنه الطويل، حتي بلغ اكتماله الحالي ليصل إلي ستة مجلدات بلغ مجموع صفحاتها 4012 صفحة، ثم اتسعت الانفراجة وتدفقت مؤلفات سيد قطب. رغم أن مرحلة حكم السادات كانت بالنسبة لي شخصياً، سنوات قحط وظلم وعسف، ذقت فيها الحرمان من النشر، الذي استمر 12 سنة كاملة، مع الاعتقال وتلفيق القضايا الوهمية والاتهامات الجائرة من أغسطس 1971 حتي 25 مارس 1983، فإنني أشكر لتلك الحقبة الساداتية أنها مكنتني من قراءة مكتبة سيد قطب كاملة والحمد لله، وأذكر حينما انتهيت من إتمام قراءة «في ظلال القرآن»، الذي أعود إليه كثيراً، أنني كنت متعجبة من البشاشة والهدوء وأجواء السلام، التي تنبعث من سطور تلك المجلدات، كأنها لم تكن مكتوبة من وراء قضبان، ولا في وقفات الاستراحة الخاطفة بين وجبات التعذيب، ودورات التحقيق وظلمات الظلم. وكان ما استلفت اهتمامي كتيبه الجميل تحت عنوان: «مهمة الشاعر في الحياة»، الذي صدر في الطبعة الأولي عام 1932، واقتنيته في مايو 1975، ويقع في 98 صفحة، في طبعة دار الشروق، وقدم له الدكتور محمد مهدي علام أستاذ التربية بدار العلوم بكلمة مؤرخة 28 فبراير 1932، وهذا يعني أن سيد قطب نشر هذا الكتيب، وهو لم يتجاوز الخامسة والعشرين من عمره. يبدو كتيب «مهمة الشاعر في الحياة»، كأنه عريضة دفاع عن الشعراء الجدد عام 1932، وتبشير بنهضة جيل من الشباب، يحرث أرض الشعر ويسقيها الحيوية والعافية، ولكنني بعد كل هذه السنوات، وعلي ضوء كل كتابات سيد قطب وملحمة حياته وقلمه حتي استشهاده، أجده الخريطة الكاشفة لمهمة سيد قطب في الحياة، والتي حددها لنفسه منذ البداية واستقام عليها، نافية ما ظنه البعض من تحولات وتغيرات وانتقال. يقول سيد قطب في تقديمه للكتيب: «هذا مجهود ضئيل صغير الحجم، أعد ليكون محاضرة فحسب.. والذي أريد أن أقوله في مقدمة هذا المجهود الضئيل الصغير الحجم: إن أهم ما فيه اقتناعي بما فيه، اقتناعاً كاملاً متغلغلاً في نفسي، حتي لهو جزء من عقيدتي، أدافع عنه كما يدافع كل مؤمن عن عقيدته..». وبعد أن يتكلم عن: من هو الشاعر، الخيال في الشعر، ذوق الشاعر، التعبيرات الشعرية، شخصية الشاعر، ينهي كتيبه بكلمات غاضبة لاسعة تقول:«.. لاحظتم في كل النماذج التي أخذناها لشعرائنا الناشئين لمحة من البؤس الصامت أو الصارخ، وبعضكم يعجب بهذه الظاهرة المتشائمة الشاكية.. ولكن ذلك في نظرنا دليل صدق هؤلاء الشعراء وسلامة فطرتهم، فهم صورة من النفسية المصرية العامة في هذه الفترة.. مدوا أبصاركم في كل نواحي الحياة المصرية ألا ترون التصادم بين القوي الناشئة والظروف المحيطة التي تناوئها مناوأة قاسية ؟ ألا تسمعون الصيحات مدوية بالألم والاستنكار من كل جانب؟ فعلام إذن لا يكون كذلك الشعر؟.. علام يغرد الشعراء بأناشيد الفرح والمراح، وكيف تدب روح النشاط الطروب في الفنون؟ انتصرنا في موقعة حربية علي جيوش الأعداء؟ أفتحنا في العالم فتحاً جديداً؟ لا.. أحصلنا علي استقلالنا المغصوب؟ أنتنفس بحرية في أي جو من الأجواء؟.. كل ما في البلد جدير بالشكوي وكل ما فيه يلذع بالألم.. وإن التألم والشكاة لدليل عدم الرضاء، ودليل السعي لتغيير هذه الحال.. ولو أن هذه الشكوي الدائبة صمتت اليوم أو انقلبت إلي لهو ومراح، لكان ذلك دليلا علي الموت والاضمحلال.. إن الذين يهزلون اليوم أو يغنون ويمرحون هم أحد فريقين: فريق أناني مجرم لا يعني بهذه الأمة، ولا يحفل بآلامها لأنه في ظل نعمة.. وفريق ميت الوجدان، ذليل الكرامة، لا تنبض به حياة إلا كالدواب والجراثيم...». كتب سيد قطب هذه الكلمات ونشرها في ظل حكم الملك فؤاد الأول، وتحت وطأة الاحتلال الإنجليزي في العام الذي توفي فيه الشاعران حافظ إبراهيم وأحمد شوقي، واستغرق مشواره في الحياة 60 عاماً، إلا 51 يوماً ما بين يوم مولده في 9 أكتوبر 1906 في قرية صغيرة من قري صعيد مصر اسمها «موشا»، تقع في زمام محافظة أسيوط، حتي يوم 20 أغسطس 1966 حين قدم عنقه ليلتف عليه حبل المشنقة، من «دون تلعثم أو تحرج» علي حد تعبير له، كتبه في واحد من مقالاته التي نشرها في 2 أغسطس 1951.