حينما قرأت عناوين بعض الصحف الحكومية المسماة مجازا القومية، ظننت أن خطأ ما وقعت فيه الصحف، فالعناوين التي حملتها تقول إن الحزب الوطني يدعو الناس لإعداد برنامجه الذي سيخوض به الانتخابات البرلمانية المقررة في شهر أكتوبر المقبل، «يا نهار أبيض».. هكذا اختلطت الكلمات مصحوبة بعلامات الفزع، فهل قرر الحزب الوطني الانتحار علناً علي مرأي ومسمع من العامة؟ أم أن تلك لحظة من لحظات الجنون العظمي التي تنتاب المفكرين المطرقعين عملاً بمبدأ العودة للشعب الذي هو مصدر السلطات، أم تُري تلك إحدي حيل وألاعيب سلاطين القرن الحادي والعشرين؟ لكنني بعدما ظللت لبرهة فاغر الفم، ذاهل الفكر.. أطرقت مليا والتفت إلي مضمون الخبر فإذا بالحوار المقصود «مع الناس» حسب لفظة العناوين يتعلق «بناس» الحزب الوطني.. أيوه كده، ذلك أن ناس الحزب الوطني من معدن مختلف أما «الناس» الآخرون أي الناس «دوكهمه» وفي مقولة أخري «دولهمه» فهم العوام.. ومنهم السوقة والدهماء.. والحاقدون والمغرضون والمنتفعون والوصوليون، الذين لا يرجي منهم خير ولا يبتغي من ورائهم منفعة. ألم يكتو «الحزب الوطني» بنار الحوارات الطويلة السقيمة الفارغة التي عقدها مع أحزاب المعارضة أكثر من مرة ولم تصل إلي أي شيء؟ لماذا تريدون من حزب حاكم لديه أغلبية مطلقة أن يضيع وقته الثمين مع أحزاب معارضة مفعوصة وممصوصة لا يزيد عدد ممثليها داخل مجلس الشعب مجتمعة علي 2%؟ هل هذه معارضة ترقي إلي أن تنصح حزباً يسيطر علي 85% من المقاعد فتقول له ماذا تصنع وما لا تصنع! ثم أي ناس يمكن أن يتحاور معهم الحزب الوطني الحاكم.. هل هم «ناس» النقابات المهنية كالمحامين الثائرين علي النظام، المطالبين بالانتقام، أم الصحفيين الغاضبين علي سلالم نقابتهم، أم المهندسين المحروسة نقابتهم، أم الأطباء الذين يستجدون رفع رواتبهم، هل هم «ناس» العمال المتظاهرون أمام مجلس الشعب أم «ناس» الفلاحين المتظاهرين والمتمترسين أمام وزارة الزراعة وفي حقولهم العطشي للمياه. من الطبيعي أن يلجأ الحزب الوطني إلي «ناسه» فهم منه وهو منهم بلجان سياساته، بقواعده الحزبية ووحداته التنظيمية، بسلطاته وبابا غنوجه. هؤلاء «الناس» الأجلاء المحترمون.. هم وحدهم من يعرف الحلول، من يقدم التصورات ويملك النهج الصحيح، بدونهم نفقد البوصلة، يضيع الطريق، نتوه في أحراش العالم، فتلهمنا السباع. وللحق أقول إن الحزب الوطني فتح بابا للنقاش مع المثقفين من خارج الحزب ولكن فقط ولا غير حول القضايا الثقافية الملحة. لكن الطريف أن يستبعد «الوطني».. الناس «دولهمه» ثم يدعو لمشروع لتحفيز المواطنين للنهوض بالمجتمع وبالدولة.. كيف ذلك لا أدري؟ الأدهي من ذلك ادعاء كبار المسئولين بالحزب الوطني أن مصر تخوض الانتخابات هذه المرة في ظل مناخ مختلف وتحديات جديدة، ولا أدري في حقيقة الأمر ما هو المناخ الجديد الذي يتحدثون عنه إذا كانت انتخابات «الشوري» بهذه الصورة التي رأيناها؟ ثم إنهم لم يلبثوا أن يناقضوا أنفسهم في اليوم نفسه بالقول إن لديهم رؤية وإنجازات وبأن ثقتهم في أنفسهم بلغت الآفاق. وما يثير الاندهاش أن يدعو قادة «الوطني» كوادر الحزب إلي الابتعاد عن التصريحات غير الواقعية التي من شأنها أن تضر بمصداقية الحزب. وهكذا يبدو أن «ناس» الحزب الوطني هم كل شيء للحزب، أما الناس التانيين فهم بلا حول ولا قوة.