يخدع خالد البري نقاده في روايته الجديدة «رقصة شرقية»، يخدعهم البري ببراعة ومهارة تندهش كثيراً حين تعرف بعدها أن الرواية هي روايته الثانية فحسب، غير أن الخدعة - حتي تكتمل- لابد أن تصبر علي البري قليلاً في رواية تتجاوز صفحاتها الستمائة ولا تكشف عن نفسها إلا في الصفحات الخمسين الأخيرة، وبين خديعة الروائي المحببة وصبر القارئ المحتمل يمكننا تقييم هذه الرواية بوضوح وبموضوعية. طوال الرواية ستظل منزعجاً من نبرة السارد وأنت تشعر أن هناك شيئا غير منطقي، السارد في الرواية يتخذ الشكل المتعارف عليه تقنيا باسم الراوي العليم أو الراوي الإله، الراوي الذي يعرف كل شيء، الأحداث والمبررات والدوافع وتفسير أفعال الأبطال، لكن السارد الذي يحكي الرواية هنا ليس الراوي العليم بالشكل المفهوم، إنه إبراهيم، أحد أبطال الرواية الثلاثة الرئيسيين «مع حسين وياسر»، إبراهيم مجرد خرتي من خرتية وسط البلد الذين يبيعون فحولتهم للعجائز الأجنبيات مقابل فسحة أو قليل من النقود، لكن إبراهيم المحظوظ يتزوج مارجريت التي تذهب به لإنجلترا، عجوز بريطانية في الخمسين يفرد الكاتب صفحات طويلة في تفسير أفعالها «ربما لأنها في كثير من الأحيان غير منطقية»، يعثر إبراهيم علي ياسر بلدياته والذي يبدو غير مرحب به تماما، شخصية دقيقة وعملية، مناسبة جدا للحياة في مدينة مثل لندن، يتعرف كذلك علي حسين «الذي يعتبر أفضل شخصية مرسومة في الرواية» مصري أعرج بعكاز يدرس الدكتوراه في القانون ويتأرجح بين تدينه ورغبته في إقامة أي علاقة جنسية وشعوره بالذنب تجاه زوجته المصرية تماما التي يسربها - كالقطط - من لندن ضيقا بها، ثم يتعرف علي مالك مارك - شاب بريطاني مسلم - نكتشف بعد ذلك أنه مجرد عميل للمخابرات البريطانية الداخلية MI- 5 ، ويدخل في علاقة مع والدته هيذر، يحصل إبراهيم علي الجنسية ويطلق مارجريت وبعد عدة مغامرات بوليسية بين لندن وروما يموت في قارب إيطالي بيد المخابرات التي تظنه متورطا في تفجيرات لندن، ستظل طوال القراءة مرتبكا وشاعرا بعدم الارتياح من لهجة إبراهيم الراوي، كيف يعرف كل شيء بهذه الطريقة، كيف لشاب بسيط كل ما يجيده في الحياة هو إمتاع المرأة في الفراش أن يتكلم بهذا الاتساع ويروي بهذه الدقة ويحلل بهذا العمق ويري بهذا الوضوح وأن تأتي عباراته بهذا الذكاء، لا شك أن ثمة خطأ ما قد وقع فيه الكاتب، عليك أن تصبر إذن أمام 555 صفحة لتعرف المفاجأة. وستجد أن اللعبة تستحق الإشادة في رواية طموح، أراد كاتبها أن يكتب عملاً كلاسيكياً كبيراً ضخماً وهو طموح يستحق الاحترام حتي وإن لم يتحقق كما ينبغي. تلخيص العمل الروائي في مراجعة نقدية أمر مكروه ولكنه في رواية كهذه كبيرة من الكبائر، فالرواية تضج بالشخصيات والمواقف وتدور في مجال جغرافي واسع يبدأ ببني مر في أسيوط ولا ينتهي بلندن حيث مجتمع المصريين المغتربين، كما أن مداها الزمني يتردد بين ماض سحيق يسترجع حكايات الآباء والأجداد ولا يتوقف عند حيرة الأبناء المحملين بإرث لا يحتمل، يصطحبنا البري لعالمه السابق في رواية «نيجاتيف»، عالم المصريين المغتربين في إنجلترا ولكن بشكل أكثر تماسكا مما في روايته السابقة، وهو يجيد وصف هذا العالم بدقة وحيوية تليق بروائي متمرس يعرف ما يتحدث عنه جيدا كما أنها تصور مجتمع المتدينين والسلفيين بشكل شديد الإنسانية والتلقائية خلافا للصورة النمطية التي نقرأها في الروايات ونراها في السينما المصرية، فضلا عن الثراء اللغوي والعبارات بالغة الذكاء واللماحية التي تزخر بها الرواية، وبقدر ما تتشابك الأحداث والمصائر في الرواية بقدر ما يبدو الكاتب غير مهتم برسم الشخصيات، يغرق في التفسير والتحليل دون أن نألف الشخصيات أولا أو نتعايش معها، لكن الأهم من ذلك هو الدراما التي تبدو أحيانا متعسفة طوال الرواية، تشعر أن الكاتب يدفع شخصياته دفعا للتصرف بهذه الطريقة بداية من حسين الذي يغرم بكاتيا فيرتكب في سبيل ذلك من «الزلات» ما لا حصر له أو كاتيا التي تريد أن تتعلم الرقص الشرقي فتعيش ستة أشهر مع شخص لا تطيقه لتتعلم اللهجة المصرية وغير ذلك، الأحداث تحدث لأن الكاتب قرر أن تحدث لا لأن الدراما جاءت بها في موضعها، كما أن الشخصيات الثانوية كانت كثيراً ما تمثل عبئا علي النص وتشتت ذهن القارئ، واللغة - خاصة لغة الحوار- جاءت خشنة ومحملة بألفاظ جنسية وشتائم مقذعة يمكن أن تزعج القارئ «الذي ينبغي أن يستأنس بالصبر حتي يستطيع قطف ثمرة هذه الرواية »، لكن يتبقي بعد كل شيء التحية التي ينبغي أن نوجهها لجرأة الكاتب وطموحه، حتي وإن خالط هذه التحية شيء من اللوم، أو شيء من النقد. الغلاف: من تصميم أحمد اللباد النصف السفلي أبيض نقي والنصف العلوي يستحوذ علي قناع بعيون مفرغة وعلي الجانب الأيسر شخصان في طريقهما إلي القناع. الرقص سيبدأ بعد الغلاف مباشرة.