"مشكلتنا أننا نعرف عن أنفسنا صور نيجاتيف، لكن قليلين لديهم شجاعة تظهير الصور"، هل هذه هي "حكمة المتحذلق" التي يحلو عادة لأي كاتب رواية عميقة إلصاقها بأحد أبطاله؟ إلا أن "إبراهيم" الذي تُنطق علي لسانه تلك العبارة ضمن أحداث رواية خالد البري الجديدة "رقصة شرقية"، وما يصدر عنه من أحكام غيرها كانت أكبر من وعيه الريفي الصعيدي، رغم أن المؤلف اختاره لكي يلعب دور "الراوي العليم"، إنها "زرابة لسان" كما وصفها الناقد د. محمد بدوي في حفل تدشين الرواية الصادرة مؤخرا عن دار العين، لكن البري نفسه يتركك حيراناً ولا يعلق علي تلك المفارقة غير المبررة إن واجهته بها، إنما يعلنها صراحة: "هذه الرواية تريد أن تقول كذلك".. "هذه رواية تبحث عن صدق الأخبار وكذبها، تسأل كيف نقدم أنفسنا؟ وما الصورة الحقيقية التي عليها نحن بالأساس؟". هكذا كانت باختصار لعبة "الماسكات" والأقنعة، أو البحث عن قناع للخروج من آخر والتي تظهر علي الغلاف واحترفها أبطال تلك الرواية - الثانية بعد "نيجاتيف" لصاحب الكتاب الجدلي "الدنيا أجمل من الجنة - وربما لم تكن "الأقنعة" إلا فكرة موازية لفكرة أخري محورية في الرواية هي "خذلان" الوطن ومؤسساته كما علق وائل عبد الفتاح، أو خذلان البيئات التي نشأ فيها حسين وياسر وإبراهيم وكاتيا ومارجريت وزينب، أو خذلان صورة الأب التي يهرب منها وإليها الأبطال الذكور في رواية البري الضخمة التي تقارب ال600 صفحة. هذا بالضبط ما يدعم الإحساس العام بعد الانتهاء من قراءة الرواية إنها تتحدث عن "ملحمة الذكورة المجروحة" والتعبير لعبدالفتاح أيضا، الذكورة متعددة الهزائم في بيئتها الطبيعية التي كانت تظن وتتصور أنها ملعب للانتصار، لكن البري يسخر من هذا الجرح كخطوة أخري في رحلته الشخصية لمزيد من الشك بعد اليقين. لمن يشاهد خالد البري مواليد سوهاج عام 1972 بكالوريوس طب ومقيم في لندن منذ 1999 للمرة الأولي ستثيره هيئته بشعره الأشعث الكثيف المتروك عمدا دون "تقصير" أو "تهذيب"، ستبدو صورته الجديدة مثيرة طالما ظلت صورة "الراديكالي السابق" الذي انضم ذات مرة إلي الجماعات الإسلامية ثم خرج أو ارتد عنها مسيطرة علي الأذهان، خاصة أن تلك التجربة القاسية بعد نجاحه في الهروب من جماعته إلي آخر الدنيا، كرسها البري في سيرة في الكتاب الذي صدر عام 2001 . لم يعد أمامنا إذن سوي تلك الصورة النمطية المسبقة: تسبق اسم البري وتلحقه، تشوش علي الجو المرح خفيف الظل الذي يفرضه حضوره، من وجهة نظر د. بدوي كان ذلك العمل ضرورة أو خطوة طبيعية لها مدلولاتها في إطار أن الكاتب العربي مشدود دائما إلي خبراته الواقعية، وإن بدا البري في كتابه الأول متوخيا قلة الصدق الأخلاقية بسبب تربيته الصعيدية والإسلامية، لكن بالنسبة لوائل عبد الفتاح هذه المرة لم يكن الأهم هو تجربة البري مع الجماعة، بل تجربته في الكتابة عن التجربة. من ناحيته يؤكد البري بإصرار أن عمله الأخير ما هو إلا تحد للقيم المسبقة في الحياة، وتحد للأخبار الجاهزة، يقول: "أكره صورة الراديكالي المنقلب علي جماعته ولا أطيق هذا الكتاب، أريد أن تؤمنوا بأني عدت كاتبا وروائيا، وربما ما لا يريد أحد تصديقه، إنني كتبت "أجمل من الجنة" بالأساس لأني أحب الكتابة، وليس المتاجرة بالقضية". لقد دخل خالد البري الجماعة الإسلامية لكي يصبح سيد قطب الصغير، هكذا أخبرنا في كتابه الذي طالته دعوات المصادرة عقب صدوره في لبنان، وطبعة ثانية العام الماضي عن دار ميريت للنشر، لكن الصحفي محمد شعير الذي أدار الندوة شرح علاقة "القرين المعكوس" بين قطب الذي بدأ شاعرا وناقدا وانتهي متطرفا، وخالد الذي سلك الطريق بالعكس، يتابع شعير: "خرج البري يتحدث عن ثقافة الكلمة التي تصنع الخطابة، ومال إلي الكلمة التي تفجر معني، ويبدو أنه وجد تلك الكلمة في كتابة الرواية"، لا في الجهاد المسلح. علي "رقصة شرقية" بحسب الناقد محمد بدوي هي رواية كلاسيكية بامتياز ومحاولة ناجحة لتكريس خالد البري كروائي محترف، لم يعد يتكلم عن نفسه لأنها ليست سيرة كما في الكتاب الأول، ولا يتلعثم كما في الثاني، واستطاع في الثالثة أن يقطع العلاقة السرية مع أحداث حياته، لا يجملها ولا يخدشها، رغم أنه استثمر في عمله الجديد أيضا بعضا من ملامح التجربة مع الجماعة، وألصقها هذه المرة بالشخصيات، إلا أنه "كان صعبان عليه أن يجرحها" كما يقول بدوي، كان كل همه فقط هو التخلص من آثار السيرة الذاتية، ولهذا فالشخص الذي يحكي حكاية "رقصة شرقية" هو نقيض الذي كان يحكي "الدنيا أجمل من الجنة"، أما بالنسبة للبري نفسه فهو كما يقول "أنا لست موجودا في هذا العمل نهائيا، بل لو قرأ أحد علي ما كتبته فيه لسخرت منه علي الفور". يطرح البري في "رقصة شرقية" مشكلة الهوية، لكنه يتحدث عن الهوية التي تخلقها الثقافة والرقص والفن وفكرة السلالة، وليست الهوية التي تصنعها المؤسسات السياسية أو الدينية، ولا حتي هوية الأجناس، فالرواية لا توضع في مصاف الروايات المهتمة بالعلاقة مع الآخر، لأنها ببساطة "تقليص الزمان والمكان في لحظة العولمة" بحسب بدوي، تبين أن الاحتكاك العنيف بثقافات مغايرة يخلق انغلاقاً علي الذات، تماما كما يخلق الانفتاح علي الآخر، والبري اختار الأخيرة، وكأن الكاتب يريد أن يقول من روايته: "دعونا نكون كما نحن، نحيا كعرب شرقيين أو صعايدة في هذا العالم.. لأن هوياتنا وكذلك رغباتنا وأحلامنا من الممكن أن تكون وهم كبير، إن الدنيا كلها شوية كلام فارغ".