المواصلات هي مأساة المصريين باقتدار، ولدي كل مصري مواقف تملأ مجلدا، لكن قليلا منهم لديه الشجاعة لكتابة ما رأي، ومحمود الغنام واحد من هؤلاء الذي اختار أن يجمع جزءا ضئيلا من مغامراته اليومية مع وسائل المواصلات ليصدرها في كتاب - هو قطعة من الحقيقة مكتوبة داخل إطار من البهجة - يحمل اسم «يوميات راكب» ويمثل شهادة من قلب الأحداث في إطار من البساطة وخفة الدم، مع الأخذ في الاعتبار أن الكاتب لم يعتزل الركوب بل مازال حيا يركب!! لنبدأ من الإهداء الذي اختار الكاتب أن يهديه إلي السبعين مليون مصري والذين وصفهم بأنهم:"هذه التركيبة العجيبة والتكوينة الغريبة المسماة في علم فارما المجتمعات ب «المصري"، هذه النماذج التي شكلت هذا الشعب الذي شكل هذا البلد الذي شكل هذا التاريخ في إطار هذه الجغرافيا» ولم ينس أن يهدي الكتاب أيضا إلي «علي بشلة وسيد الجعان وحناطة ابن أم حناطة، وكل السواقين والتباعين.. وإلي كل رجال المرور الشرفاء آه.. الرزلين لأ»، بعدها لن تجد صعوبة في معرفة أن تلك الشخصيات السابق ذكرها هي من رافقت الكاتب وهو يكتب مذكراته عن الغنام الراكب الذي يستقل كل وسائل المواصلات ليصل إلي عمله في الصباح والتي يستقلها ليعود إلي منزله في المساء. ففي يومية بعنوان «السيارة رقم واحد في مصر» يقول: أنا رأيت السيارة رقم (1) في مصر - مالك دخت كده ليه وهيغمي عليك؟! - نعم رأيت السيارة ملاكي «كذا» رقم «1» حتي إني ملت علي الواقف جواري الذي هو صديقي بحكم الواقع - كيف لا يكون صديقي وهو يضع يده علي كتفي بسبب الزحام ويتنفس في وجهي بسبب الزحام، ومع كل هذه العشرة فإني والله لا أعرفه، ومع ذلك أشرت إليه أن أنظر إلي هذه السيارة المرسيدس السوداء، فغر فاه بشدة وارتفع حاجباه وهز رأسه فتيقنت أن صديقي ابله كذلك...". وفي يومية أخري جاءت بعنوان «لو بطلنا نحلم نموت» حملت حوارا بين الكاتب وبين عفريت خرج له من زجاجة ويقول له: طلباتك أوامر، فما كان منه إلا أن قال في صوت يملؤه التأثر: عايز لما أركب المترو أبقي أقعد، ولما أقعد أقعد جنب الشباك عشان ما أشمش الروائح البشرية الطيبة.. والمترو ييجي بسرعة ويطلع بسرعة ما يخزنش في كل محطة عشر دقايق.. ولما آجي أنزل يكون الباب فاضي، وأعرف أنزل أنا والجاكيت بتاعي مع بعض، ولما آجي أطلع من المكنة ألاقيها فاضية وأطلع لوحدي، ما ألاقيش واحد لازق في ضهري يطلع معايا بتذكرتي، وأول ما أخرج ألاقي الأتوبيس اللي باركبه فاضي، وأول ما أركب يطلع علي طول.."!! فما كان من الجني «العفريت يعني» إلا أن حاول الدخول من جديد في الزجاجة قائلا:"يا عم بلا وجع قلب» وبينما يحاول التفاهم معه والوصول إلي حل وسط قال العفريت بكل قرف: يا عم اوعي بقي.. ومالها الازازة يعني؟ احبسني تاني أحسن!! ويبدو أن الكتابة الساخرة ليست هي موهبة «الغنام» فحسب، بل إنه يكتب الشعر أيضا ولو من وحي الميكروباص، ففي مقال بعنوان «أنا سمعت شريط يا سعاد» الذي يسخر فيه من تلك الأغاني التي يصر سائقو الميكروباص علي إطلاعنا علي أحدثها لكبار مطربي الميكروباصات، يبدع المؤلف هو الآخر ويؤلف علي غرارها أشعارا فيقول مثلا: صدقني مش باحرق دمك/ بالعكس دا أنا شايل همك/ لو كان رباك أبوك وأمك /كنت عرفت تكفي نفسك/ أنا عودت وداني ما تسلكهاش إلا إيديه /أنا عودت صوابعي ما تفركش إلا عنيه/ أنا لو هاحتاجلك تبقي الوكسة اللي هيه/ ولو شاطر كفي نفسك! وهكذا علي مدار 22 يومية حملت عناوين مثل «ساعتان في أتوبيس الهيئة.. هذا ما رأيت»، «حلم الوصول للقصر الجمهوري»، «المقامة الميكروباصية»، تنتقل من قصة لأخري حدثت فعلا، لكن مع فارق أن الكاتب اختار أن يقدمها في إطار ساخر يثير الضحك بدلا من أن يذكرك بمأساتك اليومية مع وسائل المواصلات التي نقضي فيها ثلث حياتنا وسط الزحام ملتصقين لدرجة نشعر معها أن الالتصاق هو واحد من ضروريات الوجود داخل وسائل المواصلات في بلدنا. يوميات راكب هو الكتاب الأول لمحمود الغنام، عيبه الوحيد أنه صغير الحجم في موضوع يتسع لعشرة كتب أخري ولكنه يستحق القراءة بكل تأكيد ليس فقط لأنه سيخلصك من همومك ،بل لأنه سيثير ذهنك وستبقي أجزاء منه في ذاكرتك لا تبرحها طالما بقيت حيا يركب!