كان واقفا بجوار دار القضاء العالى ليلًا، استوقفنى طالب بكل أدب وطلب جنيهين فقط ليعود إلى بيته، عرضت عليه أكثر فرفض بإباء، أعطيته الجنيهين وأكملت طريقى، ولكن شيئا ما جعلنى أراقبه من بعيد. كان ما توقعته طبعا، فهو ينتظر لحظات ليضمن اختفاء فريسته السابقة ثم يعاود الطلب من غيره، عدت إليه لأفحمه فتبدلت لهجته الودود وأجابنى باستهتار وسخرية: وإيه يعنى؟ الاتنين جنيه دول هما اللى فارقين معاك؟ خُدهم وخلصنا. بعدها بأيام استوقفنى رجل أعمى لأعبر معه الطريق، تأبط ذراعى بكل ود وأوصلته إلى المكان الذى يريده، بعد أن تركته كان أول ما فعلته أن تحسست جيوبى لأتأكد من أنه ليس لصا يدعى العمى سرقنى فى غمرة التعاطف، كنت مخطئا فالرجل شريف، ولكن استوقفنى الموقف لأسأل نفسى: ما الذى أوصلنا إلى هذه الدرجة؟ الشك فى كل الناس، التمهل فى فعل الخير خوفا من الخديعة، التفسيرات المغلوطة لكل فاعل خير لأنه «أكيد مش هيعمل كده لله»! المدّعون واللصوص أغلقوا الباب على الخير لكل صاحب حق، فأبعدوا الناس عن الحق، قِس الأمر على كل مناحى حياتك، كيف كانت الثورة مبهجة، فخرج إليك مُدَّعون باسمها جعلوك تلعنهم وتلعنها.. كيف كان الإعلام سبيلًا للتوعية والترفيه فاحتكره مَن حولوه إلى مطية لنظام، فاحتقرت أصحابه.. كيف كان رجال الأعمال عصب الصناعات ولقمة العيش للشعب، فظهر منهم من نهب وسرق فأصبحوا جميعا موصومين بمص دم الناس.. كيف كانت الكتابة سبيلا للرقى والمعرفة ورأيت من أهانها وجعلها تسبيحا بحمد أصحاب النِعَم، فكرهتَها واتهمتَ كل من يكتب بأنه خائن وقابض وبتاع مصلحته. يصرخ الصالحون فى كل مجال: «والله إحنا مش كده» ولا مجيب، لأن ببساطة «ولاد الحرام ماخلوش لولاد الحلال حاجة»!