لعل أول انطباعات زوار قرية جريس مركز أشمون بالمنوفية أنها قرية مختلفة بكل المقاييس ،فقد يحتار البعض في الزمن الذي تعيشه تلك القرية وهل هو زمن بدائي تحتفظ القرية فيه بصناعة عمرها قرونا أم أن القرية تعيش في أجواء نموذجية من الأفضل أن تتبعها باقي قري مصر لنرتقي بأهل الريف من أجل إعادة الانتماء مجددا إلي الأرض والطين. أما بالنسبة للطين فتعد قرية «جريس» التي تأسست في زمن الفراعنة علي مسافة 38 كيلومترا شمال القاهرة ونحو سبعة كيلو مترات من مدينة أشمون واحدة من أكثر أربع مناطق في مصر تقديرا للطين، واكتسبت شهرتها من أنها واحدة من المناطق المتخصصة في صناعة الفخار إلي جانب الفسطاط بالقاهرة وقنا وقوص في صعيد مصر. وبقيت حرفة الفخار متوارثة بين أبنائها البالغ عددهم حالياً نحو 25 ألف نسمة ويعتمدون في معيشتهم علي ما تدره تلك الصناعة من ربح وتصديره لكل القري والمدن عبر نهر النيل حيث كانت تحظي يوماً ما قبل إنشاء قناة السويس بشهرة واسعة كميناء مهم علي النيل ترسو عليه القوارب والصنادل وكانت تأتي في الأهمية كميناء بعد روض الفرج ودمياط ورشيد وهي الآن عبارة عن ورشة كبيرة لصناعة الفخار فلا يكاد يخلو شارع أو زقاق أو سطح منزل من كميات كبيرة من الفخار مصفوفة أو معدة للبيع وتعد واحدة من أقدم وأشهر قري مصر، حيث اشتهرت منذ القدم بصناعة الفخار والتي لا تزال تعتمد علي طرق بدائية متوارثة عبر آلاف السنين، مثل الدولاب الذي يدار بالقدم وأدوات النحت وفرن الحرق الذي يعتمد علي أعواد حطب الذرة والقطن. والصانع الماهر في تلك القرية ينتج في المتوسط يوميا نحو 150 قطعة متوسطة الحجم كالقلل والأطباق، ومن 30- 50 قطعة من التحف والأنتيكات وهناك شروط لإتقان مهنة الفخار، منها أن ينخرط الصانع في العمل وهو طفل لأنها حرفة تعتمد علي الإحساس والتناغم بين يدي الصانع وحبيبات الطين ولذلك لابد أن يزرع في المتدرب وهو صغير كي يشب عليه فيعرف أي أنواع الطين تصلح للعمل وكمية الماء والوقت الكافي لتخمر الطين ودرجة حرارة الفرن المناسبة. غالبية أبناء «جريس» يتلقون تعليمهم في المدارس والجامعات المختلفة، ويواظبون علي تعلم مهنة الفخار لمواجهة أعباء الحياة في المستقبل للتأكيد علي أن «الفواخرجي» -صانع الفخار - المتعلم أفضل من الجاهل، الذي لا يجيد القراءة والكتابة، فالمتعلم قادر علي تطوير أدواته ومواكبة متطلبات السوق وفهم أذواق الناس واحتياجاتهم لاسيما من التحف والأنتيكات الفخارية، ولا يوجد شكل معين أو مقاسات ثابتة لقطعة الفخار، فالصانع يصنع الشكل الذي يخطر بباله، فهي مهنة إحساس من الطراز الأول ولا يعد غريبا أمام عظمة هذه القرية أن العديد من طلاب كليات الفنون الجميلة والتطبيقية بالقاهرة والإسكندرية، يحضرون إليها ومنهم من يعد دراسات عليا عن الفخار. و هذه الصناعة يتوارثها أبناء جريس منذ آلاف السنين دون غيرهم من القري المجاورة ، نظراً لما تتمتع به جريس من مقومات طبيعية ملائمة لتلك الصناعة ، في مقدمتها توافر الطينة السوداء الكثيفة التي تعد المصدر الأول لصناعة الفخار، إلي جانب توافر مصدر دائم للماء وهو نهر النيل وأيضاً مهارة الأيدي التي يتوارثها أبناء جريس ، جيلاً بعد جيل ولا يعد مبالغة إذا قلنا إن الطفل يولد وهو يعرف كيفية تطويع الطين وتلك الطريقة البدائية أسهمت -رغم صعوبتها- في توفير آلاف من فرص العمل لأبناء القرية التي لم تعد في حاجة لوظائف الحكومة .