حين تم إنشاء نظام للعلاج يسمي العلاج علي نفقة الدولة في عام 1959 كان يهدف إلي علاج الحالات المرضية التي لا علاج لها في داخل البلاد ويمكن شفاؤها في خارج البلاد ولكن تم تطويره في عام 1975 ليسمح بعلاج المواطنين في الداخل علي نفقة الدولة بهدف توفير حماية صحية للمواطنين غير المؤمن عليهم صحيا والأكثر احتياجا وفقرا من أضرار المرض وأعبائه المادية وهم حسب تقديرات البنك الدولي يمثلون قرابة 20% إضافة إلي شرائح من الطبقة الدنيا المتوسطة الذين لا يقَََدرون من الفقراء بالضرورة ولكنهم لا يقدرون علي تحمل تكاليف علاج ما يسمي بالأمراض الكارثية ( الأورام والفشل الكلوي والكبدي.. إلخ) والتي قد تدفع بهم إلي الفقر. حين تأسس هذا النظام كان يمثل مرحلة انتقالية في أجندة الدولة للوفاء بالتزاماتها الدستورية والحقوقية تجاه المواطنين والفئات غير المؤمن عليها إلي أن تستطيع الوفاء بمد مظلة التأمين الصحي الاجتماعي لتشمل كل المواطنين في عام 2011 كما أعلن في برنامج الرئيس الانتخابي في يونيو 2005 ولكن ما الذي حدث علي الأرض فعليا بشأن هذا النظام خاصة في السنوات الثلاث الأخيرة وفجر ما عرف أخيرا بأزمة العلاج علي نفقة الدولة بين عدة أطراف هي وزارة الصحة المسئولة عن إدارة النظام وأعضاء مجلس الشعب الذين لعبوا دورا مهمًا في الأزمة كوسطاء بين النظام والمرضي في دوائرهم الانتخابية ثم الإعلام الذي أثار الجدل حول القضية وأخيرا الجهات الرقابية التي أخذت في فحص أعمال النظام وتحديد أسباب الخلل داخله ومدي الفساد الذي شابه. والواقع أن ما ظهر مؤخرا من معلومات يشير إلي أن القائمين علي هذا النظام لم يلتزموا بالمعايير الأساسية التي تحكمه والتي تستهدف حماية الفقراء والفئات الأولي بالرعاية من مخاطر المرض المادية والصحية بل قاموا بأفعال تمثلت في الموافقة علي سداد مقابل خدمات صحية روتينية لبعض القادرين من المواطنين في داخل البلاد وخارجها، ما يعني أنهم لم يلتزموا بالمعايير ولم تكن لديهم خطة تنفيذية واضحة للحفاظ علي موارد النظام وتوجيهه لمستحقيه حتي يستمر في توازن مالي إلي أن يتمكن النظام من تأسيس التأمين الصحي الشامل مما أدي إلي الإخلال به ووقوعه في براثن الديون وسوء الاستخدام، ما أعطي الفرصة لبعض الدوائر الحكومية إلي المطالبة بتقليص موارده أو إلغائه تماما. والمدهش أنه حسب المعلومات المتاحة من دراسة حديثة للبنك الدولي فإن نسبة ما أنفق من موارد هذا النظام علي الأمراض الكارثية التي يستهدفها لم تصل إلي 30% من إجمالي ما أنفق في العام الأخير وهو قرابة 3 مليارات جنيه مصري ذلك ما يعبر عن استهداف خاطئ لمستحقيه. وقد أرجع السبب في ذلك إلي الفساد وسوء الإدارة و استخدام التمويل في تدخلات طبية عادية لمواطنين قادرين ماليا وفي مؤسسات صحية خاصة استفاد منها بعض أصحاب النفوذ السياسي، ولتنفجر الأزمة أعلنت وزارة الصحة أن النظام مدين بقرابة مليار و800 مليون جنيه في العام الحالي وأن وزارة المالية ترفض سداد هذه الديون ( سددت بعدها 200 مليون حتي لا تتوقف المستشفيات عن العمل). وكما تساءل البنك الدولي في دراسته السابقة عن مقارنة بين نفقات الهيئة العامة للتأمين الصحي والتي بلغت في العام نفسه 2.2 مليار جنيه لتغطية خدمات صحية ل 50% من السكان في مقابل ما أنفق في العلاج علي نفقة الدولة 3 مليارات لخدمة 1.7 مليون مواطن! ما يعني وجود تفاوت كبير في أساليب الإدارة واستخدام الإنفاق وعدالته. فما الذي أدي إلي ذلك؟ وما الهدف من إعلانه وتفجير الأزمة؟ ثم التحقيق فيها قانونيا؟ هل الهدف هو ترشيده ومحاسبة المسئولين عن سوء استخدام موارده؟ هل الدعوة لوضع معايير جديدة له ما يعني أنه ظل يعمل طوال السنوات السابقة دون معايير؟ أم الدعوة إلي إلغائه أو تخفيض نفقاته تمهيدا لتخلي الحكومة عن مسئولياتها تجاه حق المواطنين في الرعاية الصحية؟ ربما كل ما سبق ولكن ما يهم المواطن البسيط الأولي بالرعاية هو أن يجد مكانا للعلاج دون أعباء مالية أو إدارية أو نفسية تؤدي به إلي العجز أو الوفاة. والمؤسف أن ما يحدث الآن للمرضي تحت دعاوي وضع معايير جديدة لا يمثل سوي إجراءات أكثر تشددا في إصدار القرارات والتي تأخذ زمنا أطول مما يضع المريض تحت مخاطر الوفاة قبل صدور القرار في ظل ما يتردد حول تحديد خمسة أو ستة أمراض فقط لصدوره! ما يبدو وكأنه عقاب للمرضي الحقيقيين علي سوء إدارة النظام وكأننا لا نمل من معالجة مشاكلنا الصحية إلا بالتخلص من الضحايا! كما أن تهديد الوزارة بوضع سقف مالي شهري أو يومي للإنفاق يبدو مسألة عبثية تصلح لمؤسسة اقتصادية تهدف للربح، ولا تصلح لنظام صحي اجتماعي إنساني إضافة إلي الحلول الشكلية لنقل المكان إلي مكان آخر في أطراف العاصمة بعيداً عن رقم 3 شارع مجلس الشعب. إن ما سبق يعبر عن عجز في وضع السياسات والحلول السليمة في الوقت المناسب ما يعكس تخلي الحكومة عن التزاماتها الأساسية في ضرورة العمل علي زيادة مخصصات الإنفاق العام الصحي إلي ما لا يقل عن نسبة10% من إجمالي الموازنة العامة إضافة إلي تطويره إداريا عبر معايير تستهدف الفئات السكانية الأولي بالرعاية، في هذا السياق تثير منظمات المجتمع المدني أهمية المشاركة في متابعة الموازنة العامة وتقييم التزام الحكومة بأهداف حماية الفئات الأفقر والأولي بالرعاية فلم تعد الموازنة قضية فنية فقط تدير جوانبها الحكومة بلا مراجعة أو تعديل من نواب الشعب ومن منظمات المجتمع المدني، كما أصبحت آلية عمل حقوقي وسياسي من الدرجة الأولي وليست قاصرة علي نخبة من التكنوقراط الذين يحكمون أسرارها!! وفي هذا المسار يؤكد ممثلو المجتمع المدني إيجاد بدائل لزيادة نسب الإنفاق العام في قطاع الصحة والتعليم غير ما تلوح به بعض الدوائر الحكومية حول ضرورة إلغاء دعم الطاقة الذي يصل إلي 96 مليار جنيه حتي تستطيع زيادة الإنفاق الصحي العام!! ما يضع المواطنين بين المطرقة والسندان أو بين خيارين كلاهما يفتقد العدالة والرشاد في حين هناك خيارات أخري أقل أضرارا بحقوق المواطنين الفقراء كالضرائب المباشرة علي الدخل وغير المباشرة علي الملكية والصناعات الملوثة والمواد الضارة بالصحة ما يمثل السياسات الأكثر عدالة في توزيع عوائد الثروة ونتائج العمل والربح. إنها رسالة المجتمع المدني إلي الحكومة وإلي أعضاء مجلس الشعب ليتحملوا مسئولياتهم في الدفاع عن مصالح المواطنين ثم ينتظروا بعدها أصواتهم في الانتخابات القادمة.