علي مدار سنوات طويلة ماضية، تتصاعد من حين لآخر مشكلة مياه النيل، ويزداد اهتمام الرأي العام بها، وتكثر الاجتماعات والمؤتمرات والمشاريع والمقترحات ثم تهدأ الأوضاع لتعود للانفجار بحدة أكبر مرة أخري.. وتزداد المخاطر، وتفشل المؤتمرات وتتفاقم المشكلات، ويبرز عجز الحكومات. منذ تسعينيات القرن الماضي، والمؤسسات الاقتصادية والمالية الدولية تروج لأن القرن الواحد والعشرين، سيكون قرنا للحروب علي المياه، وأن العالم سيشهد ندرة شديدة في المياه، وأنه يجب معاملة المياه كسلعة تباع وتشتري.. وذلك سعيا لأن تصبح المياه مغنما للاستثمارات والاحتكارات الدولية، وتتحول من منفعة عامة كما تعود البشر علي التعامل معها منذ بدء الخليقة، إلي سلعة تجلب المليارات علي الاحتكارات الدولية وتوابعها المحليين. ولما كانت الحكومات والأنظمة السياسية في بلدان حوض النيل بجملتها، خاضعة للإرادة الدولية ولروشتات خبراء البنك الدولي وصندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة العالمية، أكبر المؤسسات الدولية التي تدعو لتحويل المياه إلي سلعة كالنفط والكهرباء وغيرها من السلع.. فإنها لن تقف ضد هذه الدعوة وتدافع عن بقاء المياه منفعة عامة.. راحت أنظمة الحكم في بلدان حوض النيل في السعي وراء مشروعات التجارة في المياه.. وبدأت بالفعل في السعي لبيع المياه لشعوبها أولا، والتعاطي مع المشروعات المقترحة لبيع المياه في الأسواق العالمية.. انسجاما مع الاتجاهات الاستثمارية العالمية في هذا الشأن. علي هذه الخلفية، تتفاقم الصراعات بين دول حوض النيل، لتبلغ ذروتها في فشل مؤتمر شرم الشيخ لدول حوض النيل في أبريل الماضي، ثم عقد مؤتمر أوغندا لبعض دول المنبع. في هذا المناخ العالمي والإقليمي الذي يسعي لتحويل المياه لسلعة تباع وتشتري في الأسواق العالمية.. ليس من المتوقع لهذه الخلافات إلا مزيد من التصعيد، وليس من المستبعد أن تتفاقم وتتجاوز الصراعات الدبلوماسية والسياسية إلي صدامات وحروب. أيضا، وعلي مدي العقود القليلة الماضية، عجزت أنظمة الحكم في دول حوض النيل عن إقامة مشروعات مشتركة لتنمية مواردها المائية وتأمين احتياجاتها من المياه وأيضا بيع الفائض منه في السوق العالمية إن أرادت ذلك. وفي ظل التصريحات الإعلامية العدائية المتداولة الآن.. تعمدت كل هذه الحكومات إخفاء حقائق صارخة.. أبرزها مثلا أن منابع النيل تسقط عليها أمطار حجمها 1660 مليار متر مكعب من المياه، ولا يدخل مجري النيل منها سوي 84 مليارًا فقط، والباقي يستخدم القليل منه في الزراعة الموسمية، أما معظمه فيتبدد في جوف الأرض وفي المحيط وفي المستنقعات وعمليات البخر. ولا يستفيد منها أحد. ولو كان التعاون والمصلحة المشتركة في نية حكومات هذه البلاد لأقامت العديد من المشروعات (المدروسة بالفعل والمقدمة من خبراء المياه) المشتركة، لأصبحت المياه تفيض عن حاجاتها، وكانت استثمرتها في الزراعة وفي توليد الكهرباء وأيضا في بيع الفائض لبعض الدول الشحيحة الموارد المائية. لكن لأن هذه الأنظمة محكومة بأوامر المؤسسات المالية الدولية والبنك الدولي وصندوق النقد، وهذه المؤسسات لا ترغب في الزراعة الأفريقية ولا في تنمية بلدانها، ولا تسمح بمشروعات كبري إلا لخدمة مصالحها، فإنها عطلت كل مشروعات التعاون. لهذا، ليس من الغريب أن نجد الرأي العام والمثقفين والخبراء والعلماء أكثر انشغالا وقلقا واهتماما بالأزمة الراهنة.. بينما الحكومات تتصرف بحمق، وبلادة وعدم اكتراث، وكأنهم لا يدركون مدي الكارثة التي ستصيب شعوب حوض النيل، بتحويل مياهه من المنفعة العامة إلي سلعة تباع وتشتري. لكنهم بالطبع يدركون جيدا، لكن الأمر لا يعنيهم، فهم لا يطمحون سوي في حساب أرباحهم من هذه التجارة، التي يأملون أن تنتعش في أسرع وقت.. حتي لو أثارت الحروب، يبقي الربح مضاعفًا.. من بيع المياه، وبيع السلاح. هذه كارثة، لن تتضرر منها شعوب دولة المصب (مصر والسودان) فقط، بل ستضر بشعوب كل بلدان حوض النيل، حيث ستتولي الشركات الاحتكارية الكبري إقامة المشروعات وشبكات أنابيب المياه (مثل أنابيب النفط) والبيع في السوق العالمية.. وليموتوا هم عطشا وجوعا. لو صح ذلك، هل يمكن أن يلعب المثقفون والخبراء ومراكز البحوث الزراعية والتنموية والمنظمات الشعبية المستقلة (بهذا القدر أو ذاك) دورا، ولو في إطار الدفاع عن حق شعوب هذه البلاد في إبقاء المياه منفعة عامة، والتصدي لمخططات الاحتكارات والمؤسسات الدولية والحكومات المحلية من أجل تحويل المياه لسلعة ومجال للاستثمار والتربح. صحيح أن بلادنا لا تعرف منظمات شعبية وأهلية أو أحزاب سياسية لها مثل هذه القدرة والطموح.. ولكن هناك منظمات دولية شعبية تتصدي بالفعل لهذه المخططات والمشاريع منذ سنوات، ولعل أبرزها منظمة (طريق الفلاحين)، التي أسسها الفلاح الفرنسي الشهير (جوزيه بوفيه) وغيرها من المنظمات التي نجحت لحدود كبيرة في إفشال سياسات منظمة التجارة العالمية والبنك الدولي وصندوق النقد، خاصة فيما يتعلق بتدمير الزراعة في بلدان العالم الفقير وفي تحويل المياه من المنفعة العامة إلي سلعة.. ويمكن الاستعانة بهذه المنظمات والخبرات إذا ما خلصت الإرادة للدفاع عن موارد شعوبنا ومصالحها ضد ألاعيب الاحتكارات والسماسرة والتجار.