أحكي لكم في هذا المقال حكايتين، وفي آخره نعقد مقارنة، علنا نستطيع أن نفهم ماذا حدث للمصريين... الحكاية الأولي حدثت عندما وقع تصادم رهيب بين سيارتين علي طريق البحر الأحمر، إحداهما قادمة من رأس غارب إلي السويس، والأخري متوجهة إلي الغردقة، والتقتا عند مدخل الزعفرانة في المسافة التي ينتهي فيها ازدواج الطريق، اصطدمت السيارتان علي سرعة عالية (150 كم في الساعة)، وقتل أربعة هم ركاب السيارة الأولي، وقتل اثنان في السيارة الثانية وجرح اثنان؛ تكسرت أضلاع أحدهما وبقي مكانه في السيارة مغشيا عليه، وتهشمت عظام ساق الآخر وقذفه هول الصدمة علي جانب الطريق ليفيق بعد دقائق، وبين الحياة والموت رأي سيارتين تقفان بجوار الحادث الهائل، ينزل منهما رجال يقتربون من الجرحي والقتلي في الحادث، لا يساعدونهم علي الخروج؛ بل يأخذون هواتفهم المحمولة وساعاتهم ومحافظهم ونقودهم وأساور السيدة الوحيدة القتيلة، ثم توجه أحدهم إلي الجريح الملقي علي الأسفلت فجرده من ساعته وخاتم زواجه وهاتفه، وانطلق السارقون هاربين دون أن يفكر أي منهم في تقديم المساعدة للضحايا القتلي والمحطمين.. عندما وصل رجال النيابة صباح اليوم التالي للمعاينة؛ كانت السيارتان عبارة عن هيكلين حديديين ليس فيهما ما يستحق المعاينة!... ونتساءل: ألا يتوقف عند حوادث الطرق السريعة إلا اللصوص؟ والإجابة: قطعا لا، فهناك فيه يقودون السيارات علي الطرق السريعة من لا يزالون يمتلكون ضمائر حية، ويتمتعون بروح إغاثة الملهوفين، وإنقاذ المصابين، وهنا الحكاية الثانية.. كانت تلك السيدة تقود سيارتها بمفردها عائدة من الإسكندرية حين صدمت السيارة التي أمامها رجلا كان يعبر الطريق، ولم يتوقف قائدها؛ بل زاد في سرعته وهرب، توقفت هي لعدة دقائق مشدوهة من عنف الحادث أمام عينيها، ترجلت واتجهت نحو الرجل المصاب، وجدته مازال حيا والدم ينزف بغزارة من أذنه وأنفه، هرعت إلي سيارتها وقادتها إلي الرجل، وحملته بصعوبة شديدة وأرقدته علي المقعد الخلفي في سيارتها، وركبت وطارت به إلي أحد المستشفيات علي الطريق، وهناك أدخلوا الرجل إلي قسم الطوارئ، وأثناء الكشف عليه أسلم الروح.... احتجزها رجال أمن المستشفي بعد أن أخذوا منها بطاقتها، علي أساس أنها هي التي ارتكبت الحادث، بكت وأقسمت لهم أنها لم تصدمه وأنها حاولت إنقاذه، ولكنهم أصروا علي احتجازها خاصة بعد وفاة المصاب، وستنتظر معهم إلي الصباح حين يأتي من النيابة من يحقق في الحادث المهم.. تصرفت السيدة واتصلت بزوجها (ذي الحيثية الكبيرة)، الذي حضر وتصرف وأخذها من المستشفي، وأثناء عودتهما معا وجّه لها زوجها لوما وتقريعا شديدين: هو انتي اتجننتي؟ تشيلي في عربيتك قتيل؟ وانتي مالك!... ونتساءل: هل كل من يقدم علي مساعدة المصابين وإغاثة الملهوفين علي الطرق المصرية سوف يتهم بأنه هو من تسبب أو صدم أو قتل من سعي إلي إنقاذه؟ ويكون مجنونا؟ والإجابة: قطعا نعم، فالسيدة التي ذكرت حكايتها أقسمت ألا تقف علي الطريق لتمد يد العون لأحد بعد ذلك أبدا، مهما كانت الظروف! وأحكي لكم الحكاية الثالثة، في كندا وعلي الطرق السريعة أيضا؛ تقوم إدارات المرور بعمل أكمنة علي الطريق، الكمين عبارة عن سيارة شبه مقلوبة وبجوارها تلقي دمية علي شكل إنسان كأنها مصاب، ويكمن رجال المرور مختفين بجوار الكمين وبعده، والمفروض قانونا علي كل قائد سيارة يمر بالحادث الوهمي أن يتوقف لتقديم المساعدة، فمن يقف يتوجه إليه رجال المرور بالشكر ويمضي إلي حال سبيله؛ أما من يمر فلا يعير الحادث اهتماما؛ فيتم إيقافه بعد الكمين ليوجه له اللوم، وتسجل علي رخصة قيادته نقاط الإساءة، فالقانون يجبر المواطن علي تقديم المساعدة لكل من يحتاجها علي الطريق في أحوال الطوارئ، وإن صدم قائد السيارة شخصاً فأصابه ثم حمله معه إلي المستشفي؛ فإن إدارة المستشفي تشكره علي حسن صنيعه؛ إذ إنه شارك في إنقاذ المصاب بتصرفه، حتي وإن كان هو الذي أصابه، ولا يتسامح القانون مع من يصدم شخصا ويهرب، ويعتبره مجرما يعاقَب بالحبس والغرامة والتقريع والفضيحة.. قد يكون لدي الكثيرين حكايات وحكايات من مثل هذه المواقف، عاينوها بأنفسهم، أو قصها عليهم من عاينها، وإنما ذكرت لك عزيزي القارئ هذه الحكايات الثلاث لتتبين معي إلي أين نحن ذاهبون، فالحكاية الأولي تبين مدي الانحدار الأخلاقي في مجتمعنا، فالرسول صلي الله عليه وسلم يقول: «الإيمان بضع وسبعون شعبة، أدناها إماطة الأذي عن الطريق»، ونحن قد آلت بنا الحال في الهوة السحيقة إلا قليلا، هذا القليل تمثله في الحكاية الثانية السيدة التي أقسمت ألا تعود لمثل ما عملته أبدا، فدخلت مرغمة في زمرة الهاوين، أما الحكاية الثالثة؛ فتذكرني مع الفرق بمقولة علي بن أبي طالب رضي الله عنه «إن الله لينزع بالسلطان ما لا ينزع بالقرآن».