كان واحدا من امتحانات اللغة العربية فى إحدى سنوات المرحلة الابتدائية،أجبت بشكل جيد وعدت إلى البيت لتستقبلنى أمى بلهفتها المعتادة -عملت إيه يا حبيبى؟ =الحمد لله يا ماما..حلّيت كويس -طب الحمد لله...جالك موضوع التعبير عن إيه؟ =واحد عن الأم والتانى عن نهر النيل -وكتبت في إيه؟ =النيل طبعا...أصلى هكتب إيه فى موضوع الأم؟؟ حملتنى فى بطنها تسعة أشهر وسهرت الليالى وكده،كله هيكتب الكلام ده!! ابتسمت أمى وأطرقت إلى الأرض فى صمت ثم قالت مداعبة صلفى"صحيح!!..وهوا انتا ماما بتعملك حاجة عشان تكتبها؟؟...قوم نام عشان متسهرش بالليل..عندك امتحان بكره" حين شرعت فى كتابة هذا المقال كنت مصرا على أن أكتب بنفسى نسخته الإلكترونية،دائما ما أكتب نسخا ورقية من مقالاتى أعهد بها إلى قريب وصديق يكتب نسختها الإلكترونية لأن وقتى لا يتسع عادة لكتابة نفس المقال مرتين،ولكننى فى هذا المقال ساورنى إحساس مختلف كنت أريد أن أكتبه عدة مرات وليس مرة واحدة،كنت أشعر بالتوحد مع كل كلمة منه،كنت أشعر بالسكينة حين كنت أنطق عنوانه لنفسى وحين كنت أكتبه على الورق ماما... هكذا أناديهاوهكذا أطمئن،وهكذا أشعر بمزيج هائل من السكينة الخالصة والأمان الصافى كل يوم يمر من عمرى أعرف فيه كم كنت طفلا غبيا حين أجبتك الإجابة التى ذكرتها آنفا،أدركت مع الأيام أن أمك لا تصنع شيئا من أجلك وإنما تصنعك أنت فى مواجهة الأشياء،أمك هى من علّمتك أن تكون كما أنت،هى من شكّلت ذلك الصلصال الصغير ليكون إنسانا بالمعنى المعنوى...نفخ الله الروح فينا جميعا ولكن أمهاتنا كانوا من تولّين مسئولية تشكيل هذه الأرواح أخلاقا وعلما وفنا وسلوكا وطباعا ،لهذا أدرك يا أمى الآن أننى بعض روحك قد انتقل فى جسد آخر وصولى لهذه الحقيقة فسّر لى الكثير مما كنت لا أفهمه عن نفسى،فسّر لى لماذا أخرج فى ردهة المستشفى لأطلب رقم هاتفك فقط لأقول "أصلك وحشتينى وعاوز أسمع صوتك" لماذا لا أشعر أننى عدت إلى البيت إلا حين أراكى فيه؟ لماذا إذا لم تكونى أنتى من فتح لى الباب أدخل لأبحث عنكِ بين الغرف؟ لماذا حين أكون فى المنزل أتنقل خلفكِ من غرفة إلى غرفة بشكل لا إرادى؟ لماذا يكون أثقل الأعباء على نفسى فى أيام النوبتجيات هو أننى لن أكون معكِ،فأذهب إلى رأسك أقبلها وأنت نائمة فى سريركِ قبل أن أنزل مع ساعات الصباح الأولى فتتنبهين أنت ويلهج لسانك بدعوات لا أحصى لها عددا ولا فوائد ولا بركات؟ حين مرضتِ كنت أبدو متماسكا..ليس منطقيا أن أكون طبيبا يتعامل مع أصعب الحالات بشكل يومى ثم أفزع فقط لأن أمى مصابة بنزلة برد جعلتها تلازم الفراش لمدة طويلة نسبيا،لكن الحقيقة أننى كنت أتمزق! كنت أنظر إليكى نظرة خاوية ثابتة أكسب صوتى بعدها كل ما أستطيع استدعاءه من الخشونة والثبات وأوصى بهذا الدواء أو ذاك أستطيع الآن أن أدرك جيدا كم كانت تربيتك لنا عبقرية! كيف أحببناك إلى هذا القدر لكنك حافظت لنا دائما على شخصياتنا المستقلة أنا وإخوتى؟ كيف شكّلتِ يا أمى جزءا من روحك فى قالب آخر فصار كيانا مستقلا تمام الاستقلال؟ كيف كنت ومازلت بهذا القدر من العظمة؟؟ كل هذا الحب والتضحية والحنان دون إفساد أو تدليل أو تضييع لملامح شخصية حرصت أكثر منا على استقلالها وتمايزها عنك؟؟ أستطيع يا أمى الآن أن أستدعى إلى ذاكرتى بعض المعاناة التى سببتها لك،المعظم ينظرون إلىّ باعتبارى نموذجا يتمنونه لأبنائهم دون أن يعرفوا أنك البطلة الحقيقية خلف ما يرونه جديرا بالاحترام الناس ينظرون إلى الطبيب نائب الجامعة لكنّهم لا يعرفون أنه لم يكن يكره أكثر من المذاكرة ولم يكن يستطيع فى سنوات ما قبل الجامعة أن يستذكر دروسه وحده،ينظرون إلى الكاتب لكنهم لا يعرفون أنه لا يستطيع الحفاظ على مكتبه –فضلا عن غرفته- منظما ليوم كامل لا أحد يعرف يا أمى أن واحدا من أوائل دفعته توقف تماما عن المذاكرة فى سنته الخامسة فى الكلية لفترة طويلة ثم جئتِ أنتِ فى جلسة واحدة معه فى (ريسيبشن) شقتنا لتجعليه يحرز أفضل مراكزه على الإطلاق فى تلك السنة لم يعرف أحد يا أمى ماذا حل بى حين طال شعرى وتركت لحيتى فى غير تهذيب وفقدت كل رغبة فى العمل والإنجاز والحياة حتى أيقن الجميع أساتذة وزملاء وأصدقاء أننى أسير نحو هاوية غير ذات قرار،ثم جئت أنت كأعظم جراحى العالم ففتحتى قلب وليدك و أدركتى ما بروحه وعالجتى ما بنفسه فأعدتينى إلى الدنيا وإلى الناس و إلى نفسى أتيه فخرا وسعادة حين أكون سببا فى أن يتحدث عنك من لا يعرفونك بشكل طيب أذكر جيدا يوم قالت لى أستاذتى الطبيبة المرموقة "روح لبابا وماما قلّهم ميرسى...ميرسى عشان عرفتوا تربوا" أو حين قالت لى صديقتى "أنا نفسى أقابل مامتك...شى ديد آجريت جوب" منذ أسبوع وفى أعقاب موقف غير أخلاقى من طبيب زميل اقتربت منى إحدى الممرضات لتقول "إحنا مشفناش دكتور زيّك...ربنا يخليهملك" مازحتها قائلا "مش للدرجة دى يعنى وبعدين يخليهملك إيه؟..أنا مش متجوز أصلا" أجابت فورا "ما أنا عارفة..أقصد والدك ووالدتك" يقولون أن الناس حين يعجبون بك فإنما يعجبون بجميل ستر الله عليك،وأقسم أن هذا صحيح ولكننى أريد أن أضيف وبجميل صنيع أمك فيك...حفظ الله لنا جميعا الستر والصنيع ماما هذه أول مرة أكتب فيها عنك وإليك أريد أن أقول لك أننى آسف على كل المتاعب التى سببتها لكى كبيرا وصغيرا،آسف على كل اللحظات التى كنت فيها عنيدا وغبيا،آسف على كل أوقات القلق والاحتراق التى جعلتك تعيشينها فى الامتحانات وفى الثورة وفى العمل،آسف على أننى لن أقضى معك عيد الأم لأننى سأكون فى المستشفى،آسف على كل لحظة لم أقبّل فيها يديك أو أكتب فيها إليك عرفانا بجميلك ماما أريد أن أقول لك شكرا شكرا لأنك صنعتى منّى إنسانا يقولون عنه جيدا،شكرا لأنك بنييتى كيانا من لا شىء،شكرا لأنك فضلتينى على عملك الذى كنت تحبينه كثيرا،شكرا لأنك ساندتينى ضعيفا،جبرت كسورى،ضمدت جراحى،كنت دائما الملاذ الآمن والدفء الدائم،شكرا على كل مرة احتجت فيها إليك وكنت إلى جانبى،شكرا لأننى أضعت طريقى كثيرا وفقدت نفسى كثيرا فكنت دائما تردّينى إليهما ردا جميلا،شكرا لأنك أم وأخت وصديقة،شكرا لأننى أحيا بك وأتنفس من خلالك وأرى بعينيك وأنجح بدعواتك وأحب بقلبك وأتعامل بأخلاقك كل عام وكل أم نور وبهجة وحياة وأمل ورحمة وحب وسكينة وحضن لنفوس البشر جميعا،أما أمهاتنا اللائى سبقننا إلى الرفيق الأعلى فأسأل الله أن يجزيهم خير الجزاء عن كل ما فعلوه من أجل أبنائهن الذين وقف الخوف على مشاعرهم حائلا صلبا بينى وبين كتابة هذا المقال لفترة طويلة قبل أن أقرر أن أكتبه لأننى قدّرت فى النهاية أن حديثى عن أمى هو حديث عن كل أم وأن فاتحة تقرأ على روح إحداهن أو دعوة بالرحمة من قلب ابن أو ابنة يقرأون كلمات كهذه لهى خير هدية و أعظم سلوى أمهاتنا العزيزات شكرا وكل عام وأنتنّ بخير