يمر المجتمع المصري بحالة حراك سياسي، ومعها حالة حراك اجتماعي وفئوي، وهي نتاج الحالة التي وصل لها المجتمع. فقد غلبت حالة عدم الرضا علي مختلف شرائح المجتمع، إلا القلة المستفيدة من الوضع القائم، وبات غالب المجتمع يطلب التغيير، وينشد حياة مختلفة. ومهما كان تقييم حالة الحراك، فهي تمثل مرحلة من مراحل تحرك المجتمع نحو التغيير. وفي كل الأحوال، سنجد المجتمع يتجه نحو المزيد من الحراك، والذي قد يستغرق بضع سنوات، حتي يصل لمرحلة الحراك المجتمعي الواسع. وأهم تغير حدث في مصر، هو رفض المجتمع للنظام السياسي القائم، وخروج فئات من المجتمع في وجه النظام القائم، للمطالبة بتغييره. فمصر في مرحلة من مراحل التغيير، أيًا كان القدر المتحقق من هذه المرحلة. لقد فرضت السلطة الحاكمة في مصر سيطرتها علي المجتمع بكل مؤسساته، لحد جعل السلطة الحاكمة تقبض بيد من حديد علي كل مؤسسات المجتمع الأهلية والدينية. ولكن تأثير سياسة القبضة الحديدية قل مع الوقت، خاصة مع بداية القرن الحادي والعشرين، بسبب عدم قدرة المجتمع علي تحمل السيطرة المطلقة للسلطة الحاكمة، وبسب رفضه الوضع القائم، والذي يزداد تدهورًا مع الوقت. ومع السيطرة الكاملة للسلطة علي مؤسسات المجتمع، سيطرت أيضًا الطبقة الحاكمة علي الدولة، فلم تعد هناك مسافة فاصلة بين السلطة الحاكمة والدولة. في هذا المناخ، تعاظم الدور السياسي للكنيسة. فلقد كانت الكنيسة تحافظ علي علاقة طيبة مع الدولة تاريخيًا، ولكن هذه العلاقة تطورت وأصبحت علاقة تربط الكنيسة بالسلطة الحاكمة نفسها. ولقد أرادت السلطة الحاكمة تأمين وضع الأقباط من خلال علاقتها مع الكنيسة، وأراد الأقباط تحويل الكنيسة لممثل سياسي لهم، ووافقت الكنيسة علي القيام بالدور المطلوب منها من قبل السلطة الحاكمة ومن قبل الأقباط في الوقت نفسه. ولكن هذا الدور لم يعد دورًا مفروضًا علي الكنيسة، بل تحول مع مرور الوقت، إلي دور تريد الكنيسة القيام به. وقد حدث هذا في وقت مبكر، ففي عام 1977 أعلن المجمع المقدس للكنيسة القبطية الأرثوذكسية مطالب الشعب القبطي، بعد أن كان زعماء الأقباط هم الذين يقومون بهذا الدور، وبهذا تأسست بداية قيام الكنيسة بتمثيل مطالب الأقباط لدي الدولة، ولأن الكنيسة قبلت هذا الدور، وقبله الأقباط أو أغلبهم، وقبلته الدولة ممثلة في السلطة الحاكمة، لذا أصبح الدور السياسي للكنيسة كممثلة للأقباط ولمطالبهم، يتعاظم مع الوقت. ويبدو أن الكنيسة رأت أن من واجبها حماية حقوق الأقباط السياسية والمدنية، وأن هذا الدور يزيد من ارتباط الأقباط بها، ويعظم دورها الديني في حياة الأقباط. أما السلطة الحاكمة فرأت أن تجمع الأقباط في مؤسسة مركزية، ووجود ممثل لهم، يسهل علي السلطة الحاكمة تأمين موقف الأقباط منها، ويسهل عليها عقد الاتفاقات بينها وبين الأقباط ككتلة اجتماعية، مما يحّول الأقباط إلي كتلة سياسية. ولا يمكن إنكار أن هذا الوضع لم يواجه برفض شعبي قبطي، مما جعل قبول الأقباط هذا الوضع يحولهم بالفعل إلي كتلة سياسية، رغم تباين مواقفهم السياسية والفكرية. وبهذا تشكلت منظومة للعلاقة بين السلطة والكنيسة والأقباط، رضي بها كل الأطراف، ولم تجد مقاومة تذكر. وربما يري البعض أن هذا من حق الأقباط، مادام هذا اختيارهم، ولكنه في الواقع اختيار قد يناسب لحظة من التاريخ، أو ربما نتج عن ظروف تاريخية خاصة، ولكنه لم يكن اختيار الأقباط التاريخي. فقد ظلت حركة الأقباط في المجال العام خلف قياداتهم المدنية والأهلية والسياسية، وظلت الكنيسة تحافظ علي مسافة تفصلها عن المجال السياسي، كما ظلت تحافظ علي علاقة وثيقة بالدولة، تقوم علي التوازن الذي يحقق للمؤسسة المسيحية استقرار أوضاعها. قد يقبل البعض بما آلت له الأوضاع، وقد يرفضها البعض الآخر، ولكن الأهم من ذلك أن سياق الحالة السياسية المصرية قد تغير بصورة تجعل منظومة العلاقة بين السلطة والكنيسة والأقباط تضر الأقباط ضررًا مباشرًا. فعندما كان المجتمع يمر بحالة صمت تاريخي أمام هيمنة السلطة الحاكمة، وجد الأقباط مساحة من حرية الحركة داخل الكنيسة، مما جعل الكنيسة تمثل المجال العام للأقباط، بدلا من المجال العام الحقيقي. فأصبحت الكنيسة هي المجال العام - الخاص بالأقباط. وأدي ذلك إلي تقلص دور الأقباط في المجال العام، وتقلص مشاركة الأقباط في حالة التفاعل بين كل القوي والتيارات السياسية والاجتماعية، وعندما بدأت حالة الحراك السياسي، ظهر بُعد الجماعة القبطية عن تلك الحالة، حيث إنها حصرت خياراتها في العلاقة بين السلطة والكنيسة. والمتوقع مع تراكم حالة الحراك المجتمعي، أن يتغير وضع السلطة في مصر، وتتحول من وضع السلطة المهيمنة إلي وضع السلطة غير المستقرة، وتدخل في مراحل تعرضها لضغوط شعبية لا تستطيع مقاومتها بسهولة. ورغم أن حالة الحراك المجتمعي لا تحقق نتيجتها بين يوم وليلة، فإنها حالة تتراكم عبر السنين بصورة تغير من مجمل الوضع السياسي القائم تدريجيًا. وهنا يظهر المأزق الذي وضعت فيه الكنيسة المصرية، حيث باتت قريبة من السلطة أكثر مما ينبغي، ولا تستطيع الخروج من تفاهماتها مع السلطة الحاكمة بسهولة، ولن تغفر لها السلطة أي تحرك يُفهم منه أنها تغير رهانها، من الرهان علي السلطة الحاكمة، إلي الرهان علي السلطة القادمة. فالسلطة الحاكمة المستبدة تقبل من يتبادل معها المصالح، ولكنها لا تسمح بتغيير التفاهمات القائمة، ولا تسمح لمن تعامل معها وتوافق معها بأن يغير اتجاهه. ولكن من مصلحة الكنيسة أن تحصر علاقتها كمؤسسة بمؤسسات الدولة، في الجانب الإداري وليس في الجانب السياسي، حتي تخرج من المجال السياسي بالكامل. فرغم توحد السلطة الحاكمة مع الدولة، فإن العلاقة مع الدولة هي علاقة إدارية وليست سياسية، ولكن العلاقة مع السلطة الحاكمة هي علاقة سياسية في المقام الأول. وهنا يبدو المأزق الراهن، فليس من مصلحة الكنيسة أن تراهن علي سلطة ربما تكون راحلة في نهاية المطاف، وليس من صالح الأقباط البقاء رهنًا لسلطة مرفوضة شعبيا. فكل اقتراب من الأقباط أو الكنيسة مع السلطة الحاكمة يضعهم في سلة واحدة معها. وهو أمر يزيد من تعقيد الوضع، خاصة مع تحالف السلطة الحاكمة مع الغرب، وتحالفها مع دولة الاحتلال الصهيوني، مما يجعل موقف الأقباط حرجًا، وموقف الكنيسة حرجًا أيضًا. هنا تأتي اللحظة الصعبة، عندما تدرك الكنيسة أهمية قصر علاقتها مع الدولة علي الجانب الإداري، وتخليها عن أي تأييد سياسي للسلطة الحاكمة، ويدرك الأقباط أيضًا أنهم لم يستفيدوا بعلاقتهم مع السلطة الحاكمة عن طريق الكنيسة، كما لم يستفيدوا من حراكهم داخل الشأن الطائفي، عندئذ سوف تظهر للجميع أهمية خروج الكنيسة والأقباط من التحالف مع السلطة الحاكمة. وتصبح الكنيسة والأقباط بين خيار المواجهة مع السلطة الحاكمة أو مع حالة الحراك السياسي المجتمعي. وتحرك الأقباط في الشأن السياسي بعيدًا عن الكنيسة يخفف من الحمل الذي تحمله، ويبرر انصرافها عن الشأن السياسي، فإذا سحب الأقباط الملف السياسي من الكنيسة، حرروا الكنيسة من الوضع الراهن الحرج. ثم مع خروج الأقباط من حالة الحراك الطائفي لحالة الحراك السياسي مع بقية شرائح المجتمع، تجد الكنيسة مخرجًا من الموقف السياسي الذي يربطها بالسلطة الحاكمة، وتستعيض عنه بعلاقة إدارية مع الدولة. أما إذا استمرت العلاقة بين السلطة والكنيسة والأقباط، فسوف تدفع الكنيسة والأقباط معها، ثمنًا مما سوف تدفعه السلطة عندما تبدأ مرحلة رحيلها.