يخطئ من يظن أن المجتمعات العربية متكلسة لا تعرف التغيير, او أنها مازالت تحبو علي طريق التقدم والإصلاح, أو أنها مجرد جماعة حالمة تتجمع علي رصيف في محطة قطار في انتظار جودو المخلص والمهدي المنتظر. فبجانب أن الجمود والتوقف عند لحظة الميلاد هو ضد سنة الحياة, فهناك الكثير من الظواهر والبؤر التي تؤكد أن مجتمعات العرب اليوم ليست كما كانت قبل خمس سنوات أو قبل عشر سنوات. ومصر خير مثال. والحديث عن تغيير المجتمعات العربية لا يقف فقط عند الظواهر الاجتماعية والاشكاليات الفكرية التي تفرض نفسها بين عقد وآخر, بل يمتد إلي كل ما يحيط بهذه المجتمعات من تطور نحو المؤسسية ومساحة الحريات وعلو شأن الحوار السياسي والتمسك بحقوق الانسان والمواطنة, والتطلع الدائم نحو مشاركة سياسية فعالة. ولعل مصر تقدم النموذج الساطع لعملية تغيير منتظمة وتتم في نواح متعددة, بعضها يحدث في صمت وبعضها الآخر تسلط عليه كمية كافية من الأضواء الواعية, والآخر يصاحبه الكثير من الصخب المصطنع والذي يشوش علي المغزي الحقيقي للحدث أو التطور, ويضعه في إطار لا علاقة له بالواقع المعيش, مما يسبب حالة إرباك شبه جماعية لا داعي لها, أو ينسج خيالا يقترب من السراب الذي لا يطفئ ظمأ العطشي. لقد فرض مصطلح التغيير والاصلاح نفسه في مصر منذ أكثر من ثلاثة عقود. بدأ في المجال الاقتصادي وامتد إلي السياسة والثقافة والمؤسسات والادارة والتعليم والصحة والضرائب والبنوك والصناعة. وكانت الفكرة الناظمة لهذه التغيرات وما زالت هي وضع مصر علي طريق النهضة والتطور الذي يثبت مكانتها كبلد عربي افريقي صاحب دور ومنهج ورؤية وريادة. ويقينا فإن مستوي التطور المتحقق قد اختلف من مجال إلي آخر, ومن قطاع إلي آخر, وهو ما يمكن تفسيره في ضوء اختلاف درجات الاقتناع والفاعلية للقائمين علي كل قطاع علي حدة, فضلا عن اختلاف درجة الاستجابة من المجتمع الفرعي الخاص بكل قطاع بعينه. ويقينا أيضا فإن مستوي قبول المجتمع لكثير من التغييرات التي حدثت بالفعل يختلف من مجال إلي آخر. فإن حدث رضاء وقبول وتأييد للمزيد من الحريات السياسية والاعلامية وحقوق الانسان وتشريعات تهدف إلي توسيع مساحة المشاركة السياسية وتأكيد نزاهة اي انتخابات عامة او نقابية, فغالبا وهذا أمر طبيعي يتعلق بفطرة الانسان ما يحدث مستوي أقل من الرضاء والقبول حين تفرض ضرائب جديدة تكون ضرورية من أجل الصالح العام وضبط الموازنة وتوفير موارد جديدة تعين علي تحقيق خطط التنمية المختلفة. وإذا كانت المجالات القابلة للإحصاء يمكن مقارنتها عبر السنوات لاكتشاف مستوي التطور ونوعه سلبا أو إيجابا, فإن المجالات النوعية تتأثر في تقييمها بالقناعات الفكرية والسياسية والمواقف الطبقية, وأضيف إليها عامل الدين الذي بات عنصرا مهما في تقييم وتفسير بل ومباركة حالة التطور الحادثة واتجاهها. وفي حياتنا الراهنة لم تفلت من ذلك سلوكيات رياضية أو ذات صلة بالنشاط الرياضي كان الظن انها ذات طابع محايد, فإذا بنا نجد من يضعها في دائرة التفسيرات الدينية, التي تثير إرباكا لدي جموع الناس لعدم معقوليتها أو لعدم ضرورتها. بهذا المعني فإن الحالة السياسية واتجاه حركتها هي من أكثر المجالات التي تتأثر بالنشأة السياسية للفرد والجماعة, وتقبل النظر والتحليل والتفسير من زوايا عدة, ولا ضير في ذلك. فالاختلاف هو سنة الحياة والتنوع هو مبعث البهجة والفرحة فيها. وما قد يراه أحدنا إيجابيا يقرب الوصول إلي الهدف المنشود, قد يعتبره آخر سلبيا مليئا بالضرر. ولا خلاف علي أن مدي اقتراب الحالة السياسية في بلد ما من نموذج ديمقراطي متفق عليه بين أبناء الوطن هو العنصر الحاكم في تقييم مدي التغير السياسي وفي أي اتجاه, شريطة أن يكون هذا النموذج الديمقراطي مقبولا من القوي الفعالة في المجتمع قبل القوي الهامشية فيه, ويمثل في الآن نفسه عقدا اجتماعيا بين فئات المجتمع وبعضهم, وبين المحكومين والحاكمين, ويسوده الرضاء العام الذي يعني شرعية القبول الطوعي وليس القبول القسري. مصر هنا, ودول عربية أخري تقدم نماذج مختلفة من التغير السياسي. بعض هذه الحالات تنطوي علي حالة حراك مجتمعي تلتزم بالقانون والدستور وتعي تماما هدفها المنشود الذي يحقق ديمقراطية فعالة, وتعتبر نفسها آلية تغيير سلمي مشروعة وتحشد الناس من اجل هذا الهدف الأسمي. وفي حالات أخري يضيع هذا الهدف الأسمي, وتضيع معه جهود الحراك السياسي والمجتمعي. وكلما كانت قيادات هذه الحالة من الحراك المجتمعي آتية من رحم المجتمع وتعرف همومه وتطلعاته عن قرب وعن خبرة مباشرة, تعلقت بها الجماهير عن اقتناع وحب, وزاد زخم وقوة دفع عملية التغيير السلمي المشروعة. والعكس صحيح, فإن افتقدت قيادات الحراك المجتمعي سمة الارتباط العضوي بالناس فقد الحراك نفسه قوة الدفع المطلوبة, وتشتت الجهد والزمن في مشارب شتي, بل واصبحت قيادات مثل هذا النوع من الحراك خصما من قوة الوطن. ومن نافلة القول أن الحراك المجتمعي الفعال والمؤثر هو ذلك الذي يرتبط بعمل يقتدي بالشروط المؤسسية الناجحة, كوضوح الهدف والدور وشفافية الأداء والمسئوليات. ولا يعني ذلك أن يكون الحراك الفعال منتظما في مؤسسات ذات هياكل بيروقراطية تستنزف الطاقة وتستهلك الموارد, بل يلتزم فقط شروط الأداء المؤسسي الفعال والناجز, والذي يتضمن أيضا نوعية القيادة وحجم تضحياتها من أجل الوطن والناس. وبدون قيادة تخرج من رحم الناس أنفسهم يصبح هناك نقص جوهري في شروط الفعالية والإنجاز. ذلك أن الحراك المجتمعي يتطلب نوعيات خاصة من القيادات والرموز. وكما في نماذج حية اثبتت فعاليتها في بلاد أوروبية وإفريقية, فالمهم أن يكون هناك رباط شعوري وعقلي خاص بين تلك القيادة سواء شخصا بعينه أو مجموعة متفاهمة ومتجانسة فيما بينها وبين طموحات الناس, ولا يهم هنا حجم الشهرة لهذه القيادة الفردية أو الجماعية بقدر ما يهم حجم القدرة علي العطاء. كما لا يهم حجم التطور العلمي والشخصية التي تتجاوز حدود الوطن بقدر ما يهم تفهم هموم الناس الحقيقية وتقديم حلول عملية وناجزة تنهي هذه الهموم بأقل قدر من الأعباء الإضافية. كما لا يهم أيضا حجم الدعاية السياسية أو الاعلامية بقدر ما يهم مدي الاقتناع الشعبي بمثل هذه القيادة الساعية للتغيير. إن مجرد وجود رموز تطمح إلي التغيير المجتمعي بأبعاده الشاملة لا يعني أنها مؤهلة لذلك حتما. فالحتمية التاريخية في مثل هذه المعارك الحياتية الكبري ليست مضمونة, كما أنها ليست من الحكمة في شيء. وكثيرا ما تكون بعض هذه الرموز مؤهلة للقيام بإنجازات حقيقية ومؤثرة تخدم الوطن في مجالات بعينها, فيها من الضرورة ما فيها. وحين تضع هذه الرموز مؤهلاتها المشهودة والقدرة علي الانجاز المتخصص في غير موضعها تصبح عبئا علي مجالات التغيير المختلفة بما في ذلك الحراك المجتمعي نفسه. والمسألة هنا مرهونة بالقدرة علي الرؤية الصحيحة والصائبة وقدر من الحكمة في وضع الشيء في مكانه الصحيح والأنسب. إن طموح التغيير الشامل الذي يعبر عن طموحات الناس وأمانيهم هو أمر مشروع لا شك في ذلك, بما في ذلك تغيير القواعد السارية إلي قواعد أخري يلتف حولها الناس, دون أن تعني خروجا علي النظام العام بل هي تطبيق له قبل أي شئ آخر. وهكذا, فإن التغيير لا يتم بمجرد الرغبة في التغيير, أو عبر التحركات الرمزية والإعلامية وحسب, أو من خلال اصطناع قناعات غير موجودة لدي جموع الناس. إنه مزيج متكامل من الرغبة والإرادة والخطة والرؤية الجامعة والعلاقة بين القيادة والناس. وحين يفتقد أحد الشروط تصبح العملية مجرد ملهاة أو حلم جميل عابر يدغدغ المشاعر للحظات يتحول بعدها إلي كابوس ثقيل الوطأة.