لم تعد مقولة سلبية الأقباط صحيحة، وهي لم تكن صحيحة منذ البداية، فرغم حالة السلبية العامة في المجتمع المصري، فإن قطاعا من المجتمع يتحرك بفاعلية تزداد وتنقص عبر المراحل المختلفة. ولقد كان حراك الأقباط حاضرا، ولكن داخل الكنائس، ومع تزايد حالة الحراك في المجتمع، والمتابعة الإعلامية المتواصلة، أصبح حراك الأقباط أكثر ظهورا وحضورا. ومع بداية مرحلة الحراك السياسي في المجتمع، تزايدت حالة الحراك بين الأقباط، متجاوبة مع الحالة العامة للمجتمع. ولكن حراك الأقباط ظل حراكا طائفيا، أي حراك طائفة من أجل مطالبها، ولم يخرج عن هذا الإطار. وعندما كانت حالة الحراك العام ضعيفة، كان حراك الأقباط من داخل الكنيسة، يمثل المجال المتاح لهم، وربما يكون المجال الوحيد، ولكن مع توسع حالة الحراك في المجتمع، أصبح أمام الأقباط مثل غيرهم مساحة من الحركة في المجتمع، تسمح بالخروج من أسوار الكنيسة والحركة في المجال العام. ولكن مع الخروج إلى المجال العام من قبل بعض الأقباط، ظل خروجهم من أجل المطالب الطائفية، ولم يتم التفاعل مع حالة الحراك السياسي العام. والحراك الطائفي للأقباط يقوم على رزمة من المطالب الطائفية، والتي تخص الأقباط، وتعنى بمشاكلهم الخاصة. وللمدخل الطائفي أكثر من وجه، فهو يظهر في التركيز على الشأن القبطي وما يخصه من مشكلات أو هموم، ثم يظهر مرة أخرى في المبالغة في المشكلات التي تواجه الأقباط بصورة تجعل منها أزمة مستحكمة، فيتحول الأقباط إلى طائفة معزولة أو مضطهدة. ثم يظهر المنحى الطائفي مرة أخرى، في البحث عن حلول طائفية لتلك المشكلات، تتمثل في تأسيس طائفية سياسية تقوم على فكرة الحصة السياسية، فتصبح مطالب الأقباط موجهة نحو تحديد حصة طائفية سياسية لهم في المجتمع. وبهذا يتعمق الطرح الطائفي، ليصبح مشروعا سياسيا طائفيا، يقوم على تمييز هوية الأقباط عن هوية المجتمع، وتوسيع الفجوة بينهم وبين المجتمع، لحد يصل بنا لتصور أن الأقباط هم فئة في خطر، أو أمة في خطر، وعليه يلزم وضع قواعد لحمايتهم. وهنا يتوسع المشروع الطائفي مرة أخرى، ليطالب بالحماية الدولية للأقباط، بوصفهم فئة لها تميزها الخاص، تعيش في مجتمع يختلف عنها ولا يتشارك معها في الهوية. ثم يتأسس الخطاب السياسي الطائفي، على الفصل بين الهوية القبطية المصرية، والهوية المصرية العربية الإسلامية، ويعاد صياغة التاريخ، وتصبح الهوية العربية الإسلامية غازية للمجتمع، ويجب التخلص منها، وإن لم يكن هذا متاحا، يصبح من الضروري الحفاظ على الهوية المصرية الأصيلة، والتي يمثلها الأقباط، وذلك من خلال توفير الحماية الدستورية والقانونية للأقباط كطائفة سياسية في المجتمع، تخضع للحماية الدولية. ذلك هو مسار التوجه الطائفي، والذي يصل لمرحلة تعمق الأزمة، وتوسع الفجوة الحادثة في المجتمع بين المسلمين والمسيحيين، حتى نصل إلى أزمة أهلية عميقة. ظل هذا المسار مستمرا ومدعوما من تيارات داخل الأقباط، ومؤسسات قبطية في الداخل والخارج، كما ظل مدعوما بقطاع معتبر من الكنيسة الرسمية. ورغم خطورة هذا التوجه على مصالح الأقباط، إلا أنه ظل توجها يتمدد داخل الجماعة القبطية دون توقف. ولكن ما حدث في المجتمع المصري من حراك سياسي، وفر فرصة للأقباط للخروج من هذا المسار الطائفي، والدخول في مسار الحراك السياسي العام، وهو ما لم يحدث. ومعنى هذا، أن الجماعة القبطية تفقد فرصة التوصل لحل لكل مشكلاتها، وإعادة دمجها في الجماعة المصرية، داخل إطار حراك سياسي جامع لكل فئات المجتمع المصري. فحالة الحراك الحالي، تشمل كل فئات المجتمع المصري، عدا الطبقة الحاكمة. لذا أصبح المجتمع كله يطالب بالتغيير، حتى وإن لم تتحرك بعد إلا بعض قطاعات المجتمع. والأقباط فئة من المجتمع، ومادام كل المجتمع يريد الإصلاح والتغيير، لذا يصبح من الممكن دمج مطالب الأقباط مع مطالب المجتمع، خاصة وأن الأقباط ليسوا فئة متجانسة، فكل شريحة منهم تمثل جزءا من شريحة أوسع في المجتمع، ولها مطالب مثل مطالب تلك الشريحة. فكل فرد من الجماعة القبطية يعاني من العديد من المشكلات التي يعاني منها أقرانه في المجتمع المصري. والذي يرصد حجم المشكلات التي يعاني منها المجتمع المصري ككل، سيجد أنها أوسع مدى من المشكلات التي تعاني منها الجماعة القبطية بمفردها، كما أن من يرصد المشكلات التي تواجه القبطي، سيجد أن ما يعاني منه بوصفه مصريا، يفوق ما يعاني منه بوصفه مسيحيا. إن المجتمع المصري يعاني في مجمله من حالة ظلم عام، تفقده فرصة الحياة الكريمة، وتفقده أيضا فرص التقدم والتنمية. وعندما يعاني المجتمع من مظالم عديدة، لا يمكن حل مظلمة لفئة من المجتمع، بدون حل مظالم الفئات الأخرى، وحل كل مظالم المجتمع. فالعدل لن يتحقق لفئة دون الأخرى، لأن العدل الجزئي ليس إلا ظلما، وإذا نال الأقباط حلا لمشكلة من المشكلات، دون أن يحدث إصلاح لأحوال المجتمع، سوف ينظر المجتمع للأقباط بوصفهم فئة متميزة ومتحالفة مع النظام الظالم، وتصبح حالتهم كحالة الأقلية المسيطرة. وحالة الحراك السياسي والاجتماعي والفئوي التي تسود في المجتمع تدريجيا، تقدم للأقباط فرصة لدمج مطالبهم مع مطالب المجتمع، والخروج من الحلول الطائفية، والبحث عن الحلول الشاملة. فإصلاح حال المجتمع وتحقيق العدل، يمثل مخرجا للجميع، وتحقيق الحرية السياسية والاجتماعية، يفتح الباب أمام المجتمع لعلاج ما حدث به من احتقان ديني. قد يجد التصور الطائفي مبررا له إذا ساد العدل في المجتمع، وسادت الحرية، وحرمت فئة واحدة من العدل والحرية، وهي ليست حالة المجتمع المصري. فالحالة العامة في المجتمع المصري تدفع نحو الحراك الوطني العام، الذي يعيد كل الحقوق المسلوبة من المجتمع المصري، ويحقق العدل والحرية للجميع. وعلى الجماعة القبطية أن لا تضيع فرصة اللحاق بقطار الحراك السياسي العام، حتى لا تنحصر داخل الوعي الطائفي، ويتعمق انعزالها عن المجتمع.