هذه حكايةٌ تقوم في قصر العيني مقام الأساطير. وهي من الحكايات التي لا بد أن تسمعها ذات يوم ما دمت فيه، من أستاذ أثناء الشرح أو طالب يحكيها باستخفاف وربما أحد العمال أو الممرضين وهو يستعيذ بالله من شرور الإنس والجن. أنا شخصيا سمعتها لأول مرة في مبيتي في سكن النواب عندما كان زميلي في السكن - وكان يتكلم بجدية - يحكي عن العفريت الذي يقبع في سكن النواب، كنت قد اشتريت كيس بسكويت وكوب نسكافيه من ماجزيلا - مجموعة أكشاك مفتوحة طوال الأربعة وعشرين ساعة عند مدخل قصر العيني من جهة كوبري الجامعة - وبدأت استعد للنوم عندما سمعت أصواتا غريبة، قلت ممازحا زميلي في السكن : - واضح أننا لسنا وحدنا هنا، بسم الله الرحمن الرحيم اللهم احفظنا. فوجئت به يستعيذ ويحوقل قائلا، ألا تعرف الحكاية، قلت، أي حكاية، قال حكاية دليلة، يُقال أن العيني باشا، واحدٌ من أشهر التجار في زمانه، كانت لديه بنتٌ تدعي دليلة، كانت دليلة - بحسب ما يؤكد رواة الحكاية - بارعة الجمال، كانت ذات وجه مشرق كالصبح وصدر ريان وخصر نحيل يرتاح علي ردفين ثقيلين، جلّ من صورهما وأبدع، تنافس في خطبة دليلة المتنافسون وازدحمت علي أبواب أبيها الهدايا ولكن الذي فاز بها في النهاية فتي وسيم مهذب يُدعي الحسيني الأشرف له تجارة رائجة في السوقو يمتد نسبه إلي النبي صلي الله عليه وسلم، وافق أبوها به لما تقدم طالبا يدها وحين سأل دليلة عن رأيها فيه فرّت مبتسمة وقد تضرج وجهها من الخجل، بدأ الرجال يعدون الزينات ويذبحون الذبائح، كما بدأت النساء في إعداد دليلة لعريسها، وفي ليلة الحنة عندما تجتمع البنات علي الضحك واللعب والمزاح البريء وغير البريء، ويقررن اللعب سويا، وتكون لعبة الاستغماية، الذين تجولوا في قصر العيني يعرفون كم هو مكان مناسب للعب الاستغماية، ممراته وابهاؤه الفسيحة ومساحاته الواسعة ومعابره التي تنفذ كلٌّ منها إلي الأخري، اختبأت دليلة ليلتها وبدأ البنات يبحثن عنها، ربع ساعة، نصف ساعة، ساعة إلا ربع، ولما أتمت دليلة في اختفائها الساعة الكاملة بدأ الأمر يأخذ منحني آخر، اظهري يا دليلة، بكفاية، انقلب الهزار جدا، بدأت البنات تبكي وانطلق المشاعلية يبحثون عنها في كل مكان داخل القصر وخارجه، قل ليلة، قل ليلتين، ثلاث ليال يا مؤمن يبحث رجال الشرطة عن دليلة وهي بلا أثر، كأنها فص ملح وذاب أو كأن الجان اختطفها وانطلق بها إلي بلاد واق الواق، قيل في اختفائها ماقيل، قيل أن أعداء أبيها - وما أكثرهم - تربصوا بها واختطفوها، وقيل أنها هربت مع عشيقها لأنها لم تكن تريد الزواج من الحسيني الأشرف، لم تتوقف الألسنة عن مضغ حكاية دليلة واختفائها اما أبوها المسكين فقد بقي ذاهلا عن الوجود فترة حتي قيل راح الرجل، ولما أفاق لم يتكلم بكلمة، ترك قصره وانطلق ماشيا إلي مسجد الحسين، فرق السائل من أمواله علي دراويش المقام وارتدي خرقة من الصوف وعمامة خضراء، لكن الأهم - والذي سيبقي من سيرته - أنه أوقف قصره وكل ما حوله من مساحة شاسعة، لتعليم فنون الطب ولعلاج الفقراء بالمجان. نظر لي زميلي مليا وهو يقول بنبرة ذات مغزي : - هكذا جاء قصر العيني - كليتنا العزيزة - للوجود، أما دليلة فلم يعثروا عليها أبدا، ولكن الجميع يؤكدون أن روحها لم تفارق المكان. يستولي علينا الصمت ثم نطفيء النور لننام، ولا نتحدث في حكاية دليلة بعد ذلك لا بالجد ولا بالمزاح، فكرت كثيرا في البحث عن الأصل التاريخي لهذه الحكاية ثم قررت أن أتركها - الحكاية - في حال سبيلها، لعلها تكون الشيء الخيالي الوحيد الباقي في مكان لا يعرف إلا الواقع وقسوة الواقع.