يقول شاعر الهند وفيلسوفها طاغور «الحب مثل البخور يحتاج إلى نيران حتى تشم رائحته»، النيران هى المصاعب والعواصف والأنواء والمخاطر التى تواجه المحب حتى يصل إلى محبوبته، ولهذا فإن كل القصص الرومانسية التى خلدها التاريخ كان وقودها المعاناة والعذاب، وما حدث للسينما المصرية من تراجع فى الكم والكيف كشف أن صُناع السينما لم يحملوا حبًا حقيقيًّا لها، أين هو روميو وقيس وعنترة الذى يضحى من أجل جولييت وليلى وعبلة، الجميع سارعوا بالجرى مثل فرار الصحيح من الأجرب عندما اكتشفوا أنها لم تعد تمنحهم كل المكاسب التى تعودوا عليها، أغلب شركات الإنتاج السينمائى توقفت عن ضخ الأموال، كبار النجوم ذهبوا إلى الشاشة الصغيرة، الكل حسبها بالورقة والقلم، وقال «بلاها سينما»، ولم يبق إلا عدد محدود جدًّا من المنتجين مثل السبكى الذى قرر أن يفك الشفرة ويوجه للسينما النوع الذى من الممكن أن يُحدث تواصلًا مع الجمهور مهما اختلفنا مع أفلامه فهو لا يزال فى الساحة. الكل يعلم أن الدراما التليفزيونية بطبعها استهلاكية، والتاريخ الحقيقى الموثق للفنان هو السينما، المسلسل مهما بلغ نجاحه فى العرض الأول يتضاءل كثيرًا مع مرور السنوات، بينما السينما لا أتحدث بالطبع عن أفلام التهريج، لكن السينما هى التى تصنع التاريخ.
لو أخذت مثلًا نموذجًا مثل عادل إمام مبتعد عن السينما ثلاث سنوات متتالية، وقدم خلالها مسلسلين، ويصور الثالت «صاحب السعادة»، السر غير المعلن أنه كان يتقاضى حتى فيلمه الأخير «زهايمر» 16 مليون جنيه عام 2010، المطلوب تبعًا لاقتصاديات السينما الحالية هو أن يحصل على 10 فقط، بينما التليفزيون يعرض عليه فى المسلسل 30، وهكذا جاءت ضربة البداية فى مسلسل «فرقة ناجى عطالله» كان فيلمًا زمنه ساعتان، ولم تستطع إسعاد يونس المنتجة رصد الميزانية المطلوبة التى يحصل بمقتضاها عادل على نفس أجره السابق، أحال كاتب السيناريو يوسف معاطى الفيلم إلى مسلسل قرابة 20 ساعة، مجرد صفقة مالية تتكئ على حسبة اقتصادية مباشرة، المسلسل حتى لو احتاج إلى مجهود أكبر فإنه يمنحه ثلاثة أضعاف ما يحصل عليه سينمائيًّا، عادل بالطبع هو حالة صارخة، لأن هناك نجومًا توجهوا إلى التليفزيون مثل السقا وكريم، لكنهم لم يفقدوا تواصلهم مع السينما، وتعاملوا بمرونة مع الظروف المتغيرة، وتناقصت أجورهم بما يتوافق مع حالة السوق، أيضًا لدينا نجوم قرروا الدخول فى المعركة مثل إلهام شاهين، التى أنتجت فيلم «يوم للستات» إخراج كاملة أبو ذكرى، وعندما تلمح اسم المخرجة تدرك أن إلهام لن تقدم مجرد فيلم للنجمة إلهام، لكن فيلم عليه توقيع كاملة وبطولة جماعية لم تُفصل المخرجة فيلمًا على مقاس البطلة، أغلب نجومنا، وعلى مر الزمن، وهم يشاركون فى الإنتاج فاتن حمامة وفريد شوقى وكمال الشناوى ومديحة يسرى وغيرهم، بقدر ما كسبوا من السينما ضخوا أيضًا أموالهم فى شرايينها.
دور النجوم الذين أثروا من السينما أن يمنحوها فى لحظات الشدة والمرض، وبالتأكيد لن يخسروا فقط الاحتمال الوارد هو أن أرباحهم ستتناقص، لكن من هو الفنان الذى يوافق على أن يضحى بجزء من أرباحه، إنهم يطبقون مبدأ «اللى تكسب بيه العب بيه».
الأفلام التى دأبنا على أن نصفها بالمستقلة لم تستطع أن تملأ الفراغ، فهى حتى الآن لم تتواصل مع الناس، المؤكد أنها كمشروعات اقتصادية لا تحقق خسائر لمنتجيها، ومن خلال مساهمات عدد من المهرجانات وصناديق الدعم تستطيع أن تُكمل المشوار الإنتاجى، وهكذا شاهدنا ستة أفلام مما نطلق عليها مستقلة عُرضت العام الماضى أى أننا نتحدث عن قرابة 25% من حصيلة 2013، وهذا يعنى أنها صارت تشكل رافدًا مهمًا وحيويًّا على الخريطة، ولا يمكن أن نتجاهل ذلك، لكن الناس هى التى تملك أن تمنح الفيلم حياته عندما يقطعون التذكرة إليه، وحتى الآن أرى أن أغلب تلك الأفلام تستسلم لكونها أفلامًا بلا جمهور، ولا يبدو لديها رغبة فى البحث عن أحضان الناس.
إذا لم يعترف الجمهور بهذه الأفلام، فلا أتصور أنها سوف تحتل مساحة دائمة على الشاشات، دفء الجماهير هو الذى يشعل البخور، فهل لدينا حقيقة بخور؟