في المشهد الأخير من «سواق الأوتوبيس»، ثاني أفلام المخرج الراحل «عاطف الطيب»، يمسك البطل بنشال هارب ويكيل له اللكمات بسخط وغضب صارخاً «يا ولاد الكلب».. البطل نفسه في بداية الفيلم، آثر السلامة والبعد عن المشاكل عندما تعرض أحد الركاب لعملية نشل مماثلة.. لكن تجربته المريرة علي مدار أحداث الفيلم، ساعدته علي اكتشاف ما ألم بمجتمعه من تغيرات سيئة، أصابت النفوس بالعطب، وأصابت المشاعر بالتبلد، فكان قراره في النهاية أن يتخلي عن سلبيته، لأنه إن لم يفعل ذلك، ستسير الأمور من سيئ إلي أسوأ... بهذا المضمون، قدم «الطيب» رؤيته لحال مصر مع مطلع الثمانينيات، ورؤيته لما يمكن أن يكون حلاً لمشاكلنا.. علينا أن نكون أكثر إيجابية، إذا كانت عندنا الرغبة في مجتمع أفضل. كل أبطال «الطيب» فيما بعد، وجدوا أنفسهم في صراع مع الأوضاع الاجتماعية والسياسية والاقتصادية المتردية.. انتصاراتهم كانت نادرة جداً، بينما انتهت أغلب المواجهات إلي خسائر واضحة.. الطبيبة التي وقعت ضحية للإجراءات القانونية الغبية في «التخشيبة»، تحولت إلي قاتلة في سبيل إثبات عفتها.. وكذلك انتهي الحال بالأخيار في «كتيبة الإعدام»، حيث اضطروا إلي ممارسة دور القاضي والجلاد، ونفذوا حكم الإعدام بأيديهم في الخائن، بعد أن استحال أمامهم أن يلقي عقابه تحت مظلة النظام القائم.. وكثير من أبطال «الطيب»، أوصلتهم مواجهاتهم مع الأوضاع المتردية إلي مثواهم الأخير، قتلي بلا دية.. المثقف الثائر في «الزمار»، الطالب الجامعي الناشط سياسياً في «البريء»، الضابط الشريف في «الهروب»، عميلة المخابرات المعتزلة في «كشف المستور»، وطبعاً رسام الكاريكاتير الفلسطيني «ناجي العلي»، الذي كان يحاول مواجهة التردي علي المستوي العربي بأكمله، مات مقتولاً بدوره. ربما يري البعض أن النهايات السابقة، تحمل جميعاً شرف المواجهة.. قاتلين كانوا أو مقتولين، في النهاية لم ينكسروا في مواجهاتهم.. هم أفضل حالاً إذن من أبطال آخرين في أفلام «الطيب»، مثل مجموعة الموظفات اللاتي اتهمن ظلماً بالدعارة في «ملف في الآداب»، فالحكم ببراءتهن في النهاية، لن يمحو وصمة العار الاجتماعية التي لا ترحم.. الهزيمة ذاتها ستجدها عند الحبيبين الشابين، اللذين لم يطلبا أكثر من حقهما الطبيعي في الزواج في «الحب فوق هضبة الهرم»، فانتهي بهما الحال في عربة ترحيلات، بتهمة ممارسة الفعل الفاضح في مكان عام.. وستجد الهزيمة أيضاً في حالة بطل «دماء علي الأسفلت»، الذي تصور أن اتهام والده بالاختلاس أمراً مشيناً، ليفاجأ في نهاية المواجهة، أن ما خفي من أمور مشينة في حدود أسرته، كان أعظم بكثير.. هل تعتبر نهاية «ضد الحكومة» انتصاراً؟ حسناً، لقد اختار الطيب مكان نزول التترات في المنطقة الوحيدة التي «بدا» فيها البطل منتصراً، عندما سمحت المحكمة أخيراً باستدعاء الوزراء لسماع أقوالهم في حادث قطار.. لكن، كيف تتصور سير المحاكمة لو قرر صناع الفيلم متابعتها للنهاية؟ «ليلة ساخنة»، هو الفيلم قبل الأخير للطيب، أنجزه بعد 15 سنة من «سواق الأوتوبيس»، وللمفارقة، هو مع نفس الكاتب «بشير الديك»، ونفس الممثل «نور الشريف»، الذي قدم نفس المهنة «سائق».. الآن، وبعد الهزائم المتتالية لأبطاله في مواجهة التردي، قرر «الطيب» أن يدلهم علي طريق الانتصار في ظل هذا النظام.. الإيجابية والأمانة والمبادئ والقيم العليا والضمير اليقظ، كلها أسلحة أثبتت فشلها وارتدت رصاصاتها إلي نحور أصحابها.. في نهاية الفيلم قرر البطلان الاستيلاء علي حقيبة متروسة بأموال المخدرات، والمدهش أن قرارهما هذا، كان كفيلاً بخروجهما سالمين غانمين من براثن مديرية الأمن.. وكأن «الطيب» بعد 15 عاماً من المواجهة، اكتشف عدم جدواها، أو علي الأقل، اكتشف أن وتيرة الانهيار، أصبحت أسرع كثيراً من محاولات الإنقاذ، فقرر ألا يحمل أبطاله ما لا يطيقون.