تتجلى بإبداع خيرى شلبى ونصوصه السردية المتعددة ظاهرة لافتة ومتواترة، قادرة على أن تشير إلى أبعاد وتأويلات متعددة، فالراصد لنصوصه يلحظ أن هناك تماهيا بين الإنسان وظواهر الطبيعة، بين الإنسان والإنسان، بينه وبين الحيوانات، والأشياء، والقيم، والكون، والإله. تترسب وحدة مَّا تجمع موجودات الحياة فى دلالات ذات مغزى صوفى فلسفى عميق، مغزى ينصهر فى السرد بتلقائية، لا يقف الكاتب عليه طويلاً قدر ما يومض سريعا، ويهمس مهرولاً فى النصوص الروائية، لكنه يمر بالفقرات الحكائية، وله وجود فعلى. هناك علاقات تواصلية تسرى بين الموجودات، وتوحى بطاقة فعالة تصنع كيانا كليا، وجودا ميتافيزيقيا يخلخل الكيانات المادية، ويتأبى على الحدود والقيود الذى يفرضها منطق الوضوح العقلى الساذج.
يلوّح الكاتب بهذه الفكرة فى جل إبداعاته على محاور متعددة، ويستدرج قارئه بمكر وحيل فنية إلى عوالم الأساطير والسحر، والرؤى الصوفية المحكية بربابة قديمة وشجية، خطوة بعد أخرى، وفقرة تلو أخرى يخلّق عوالم عجائبية طازجة تند عن آفة التكرار، كما يعبث بقوانين البشر ومحدودية الفصل بين الكائنات، ويشير إلى العلاقات غير المرئية فى الوجود.
على أصعدة متعددة تنفتح النصوص على علاقات عرفانية غير معقدة، لا تبدو ناتئة، أو دخيلة على جسد النص الإبداعى، كما تأخذ أشكالاً متنوعة مثل:
■ علاقة الإنسان بالظواهر الطبيعية، والكائنات.
■ علاقة الإنسان بالأشياء والقيم والمعانى.
■ علاقة الإنسان بالإنسان.
■ علاقة الإنسان بالإله.
أود أن أشير إلى أن هذه التقسيمات التى يصنعها البحث لا وجود لها فى النص الروائى على هذا النحو الفج، كما أن الرؤى الصوفية أو الفلسفية الكامنة بالنصوص، وتخاتل الروائى غير مقصودة لذاتها، ولا يشير إليها الكاتب بطريقة مباشرة، بل تتبدى فى بُنَى فنية إبداعية أخرى، تبدو فى النصوص وكأنها نهر خفى يترقرق تحت طبقات النص، وكأنه الزاد الجوفى الذى إن فتحنا له عينا لتفجر بعوالم وجنان من الخضرة والنور، عوالم تلهو بالمخيلة بين الممكن والمستحيل.
تحاول هذه الدراسة أن ترصد أشكال هذه العلاقات فى عدد من إبداعات الروائى خيرى شلبى، كما تبحث عن الباعث لهذه الرؤية فى جل نصوصه من مؤثرات ثقافية وخبرات حياتية وإنسانية مرت برحلة المبدع، وكيف وظف الروائى أدواته الفنية ليعبر عنها؟
يقول «سيد أبو ستيت» أحد أطراف الصراع فى رواية «إسطاسية»: «بنت المركوب نصبت خيمة عزاء دائم فرضته على البلاد كلها! ولا توجد قوة قادرة على إسكاتها وإخماد نارها!.. ماذا إذن لو كان ابنها هو سيدنا المسيح عيسى ابن مريم؟!».
يصف الروائى صوت إسطاسية يقول: «فإذا بصوت إسطاسية يصافح وجهى كزخة مطر مفاجئ سمج ولامع ومربك» صوت هذه الولية مثل الذرة ينشطر ويتفجر فتتصدع منه النقوش وتمتلئ بالشروخ فتصير آيلة للسقوط.
يتوحد صوت إسطاسية مع الطاقة الكامنة فى الوجود، يسيطر إصرارها وإرادتها على قوى الوجود وتستنزل العقاب على قتلة ابنها.
فى «موال البيات والنوم» يصف الروائى ضياعه فى المدينة يقول: «كان الضجيج قد تلاشى تماما من الوجود، لعلى أنا نفسى قد تلاشيت، تحولت إلى خاطرة محلقة تحت مظلة كبيرة من السحب الداكنة الغامضة.. كخيط من الدخان ينسلخ من الكتل الثقيلة ويصل موصولاً بها إلى ما لا نهاية. ها هى ذى تلتقطنى من الجانب الآخر، فيحتوينى حضن سحابة هابطة من علٍ».
تتابع على الراوى علاقات متفاوتة مع ظواهر الطبيعة فى النص السابق، تتوافق مع شعوره الداخلى، وتتذبذب درجات خفوتها أو قوتها مع شعوره بالأمان مع العالم حوله.
فى مستهل روايته «الوتد» يقول خيرى شلبى: «كثيرا ما تمنى أبناء الدار موت (الحاجة تعلبة) مع ذلك ما تكاد تلم بها وعكة صغيرة حتى تنقلب الدار كلها كأنما القيامة على وشك أن تقوم. يجىء حلاق الصحة وينصرف عددا من المرات، ويحضر القريب والبعيد من الأقارب والأصهار والمعارف، حتى لتصير الحارة كلها -وهى كلها بيوتنا- زريبة كبيرة تضيق بركائبهم التى يبدو عليها الحزن هى الأخرى، إذ تقف مدلاة الآذان عازفة عن الطعام والنهيق. وتتحول الدار إلى مولد صغير..».
تتأثر الأماكن بقاطنيها من البشر والحيوانات بمرض «الحاجة تعلبة»، وتسيطر حالة من الحزن على الوجود المحيط.
فى الامتداد التاريخى البعيد ومنذ الحضارة الفرعونية، لا يعرف الفلاح المصرى حدودا فاصلة بينه وبين حيواناته، فهى مرسومة بجواره على جدارياته التسجيلية فى أبهى صورها.
يؤرخ خيرى شلبى لقصة حياة عباءة فى نصه «موت عباءة» ومن خلال هذا الرداء يصنع تأريخا للتحولات القيمية، وضياع مفهوم العائلة وكبير القوم فى المجتمع المصرى الحديث فى القرن العشرين. يقول الحاج عبد المطلب كبير عائلة «حشلة» بعد أن استرد العباءة التى ورثها عن أبيه من أخيه عبد الرشيد الآن قد استرحت! ليس لأن العباءة عادت إلى مكانها لا! فالعباءة فى حد ذاتها لا قيمة لها بين الأشقاء! وهى الآن لم يصبح لها أى قيمة لأن أحدا لم يعد يحترمها! لم يعد يلبسها كبار القوم لأن الأقوام لم يعد لهم كبراء! لم يعد هناك أقوام أصلاً!!.
تصبح العباءة فى النص حاملاً لكل التحولات التى حدثت لعائلة «حشلة» وأفرادها، وهى ليست جمادا أو شيئا فى النص بل تبدو وكأنها عروس يوم زفافها، يصفها الروائى بقوله: «.. ومن بينها ذكريات تفصيله هذه العباءة وكيف كانت قماشتها فرجة يلف صيتها البلد، وكيف كان عِلية القوم يجيئون للدكان لفحص القماشة والتشوف على مثلها، وكيف دفع جدى ثمناً لحياكتها أربع كيلات من القمح ودفع البقشيش لابنه هذا عنزة وذكران من البط، وكيف لبسها جدى ولف بها البلد من أقصاها إلى أقصاها.. فبفضلها صار جدى كبيرا للعائلة بحق وحقيق حيث اكتمل المركز بالمظهر اللائق..».
نحن لسنا بصدد شخصنة الأشياء وإضفاء صفات الإنسان عليها، قدر ما يريد الكاتب أن يبرز العلاقات الحميمة بين الأشياء والإنسان، ما تضفيه الأشياء على الأشخاص.
منذ زمن بعيد لاحظ الباحثون الغربيون والمستشرقون العلاقة الحميمة بين الفلاح المصرى والأرض، وسجلوا أنه يتشكل من تلك الأرض التى يطؤها، فهو معجون بداخلها، وبالكاد يظهر على سطحها، فهو يجمع بين عنصرى الأرض وماء النيل، ورأوا أنه ليس هناك أى مكان يكون فيه الاتفاق بين الإنسان والأرض أوضح من ذلك.
تتطور تلك العلاقة الأزلية بين المصرى الفلاح والأرض المصرية لتشمل الموجودات الكونية جميعها فى وحدة كلية تتماهى فيها كل المخلوقات لتشير إلى منظومة وجودية واحدة، تتبادل فيها الموجودات الأدوار والوظائف دون تمييز أو عناء.
دعونا نسترجع معا طابع التكوين والتنظيم المعمارى والبشرى للقرية المصرية، تلتف البيوت المتلاصقة التى تأتنس بعضها بالآخر فى رقعة أرضية واحدة، نادرا ما ينفصل المصرى ببيته وحيدا فى مزرعته، شأن الريف الأمريكى أو الأوروبى، مرفق بكل بيت حظيرة الحيوانات والطيور دون فاصل يذكر سوى جدار إن وجد، على أطراف الكتلة العمرانية والبشرية تقع مدافن القرية غير نائية، يسرى النهر بين المزارع والبيوت والبشر فى منظومة عشق ورضا بالأقدار، فى هذا النسيج الكلى المترابط يتفتح وعى خيرى شلبى بالعالم من حوله والوجود، ثم تنضم تدريجيا ألوان من الثقافات العربية الموروثة والغربية لتشكل تطورا فكريا ثريا يتكئ فيه على بعض المذاهب الفلسفية ورؤى بعض الفرق الصوفية.
ويتبدى هذا التطور فى حس صوفى أدبى فى منتج الروائى السردى، فى بوتقته الحكائية ترتبط التفاصيل الصغيرة بالكليات الكونية فى هارمونية شديدة التلاقى والانصهار.
يقدم المبدع فى رواياته فكرا عميقا يرى الجوهر الواحد المتعدد فى الموجودات، فى أشكالها وبدائلها اللا متناهية، كما يبرز انصهار الحضارات المتعاقبة على المصرى البسيط فى سيمفونية أنتجتها خصوصيته الفرعونية، القبطية، الإسلامية، وخصوصية المكان بنهره الخالد وموقعه فى قلب العالم.
وكما تنادى الحياة على موجوداتها وكائناتها فى نصوص الكاتب ينادى الموت الموت أو الحياة الأخرى فى عقيدة المصرى، ففى مشهد النهاية فى نص «الوتد» بعد أن يطمئن الحاج «درويش» على التجهيزات كافة تلك التى أعدت بعد مرض الموت لأمه «الحاجة تعلبة»، لم يعد يستطيع أن يستمر فى الحياة بدونها، كأن موتها ناداه وكأن العلاقات الروحية الخاصة التى كانت بينهما أبت الانفصال، وفى موقع البرزخ بين الحياة والموت يتلاقيان ثانية، ربما ليبدآ حياة أخرى، ويقول السارد: «فلما بدأ فى تنفيذ كل ذلك أمامه عاد فدخل الدار فتحرك الموكب وراءه داخلاً. خلع (عمى درويش) حذاءه وتربع فوق المصطبة مستندا إلى المساند الكبيرة العالية، واضعا عصاه بجواره. ثم عاد فجلس متقرفصا وشرد ببصره لبرهة طويلة، ثم أراح رأسه على كفه واندمج فى تفكير عميق، وطال استغراقه حتى سكت من حوله لإعطائه فرصة للنوم ساعة أو ساعتين يستعين بهما على ما قد ينتظره فى المساء من مشاق لكن النوم طال، فاضطر الضيوف إلى الانصراف، واضطر (عمى عبد العزيز) لإيقاظه حتى يسلم عليهم، هزه برفق قائلاً: (يا حاج). ولم يكمل كلمته إذ سقط رأس (عمى درويش) على صدره. فمال عليه (عمى عبد العزيز) وتفحصه فوجد أن السر الإلهى قد صعد..».