فى إحدى العمليات الجراحية التى أجريت لرضوى عاشور فى أمريكا، وقبل أن تفيق تمامًا من أثر البنج، قال لها مريد أو تميم إن مبارك سقط، فلم تستطع إلا الابتسام، وهى التى عاشت مثل أغلب أبناء جيلها والأجيال التالية، تسعى من أجل أن ترى مثل هذا اليوم الجلل. أما مريد فهو زوجها الشاعر الفلسطينى المعروف مريد البرغوثى، وتميم هو ابنها الشاعر المعروف أيضا تميم البرغوثى. وبعد ما يقرب من خمسة أشهر أجرت خلالها أربع عمليات جراحية فى الرأس، تعافت رضوى، وتمكنت من العودة أخيرًا، ونزلت الميدان مساء 26 مايو، الذى كان بالمصادفة يوم ميلادها.
بين هذا وذاك تقدم عاشور سبيكة محكمة ومتماسكة فى عملها الأخير «أثقل من رضوى» الصادر عن دار الشروق، سبيكة مضفورة برهافة نادرة لرحلة الانتصار على المرض وإلحاق الهزيمة به دون أى افتعال لبطولة زائفة، ولآلام ولادة الثورة المصرية فى طريق لم يكن يومًا خاليًا من الدم ورصاص القناصة والدهس بالحافلات، وهى أيضا، هذه السبيكة، تتضمن بقع ضوء متناثرة هنا وهناك للبيت الكبير، بيت العائلة، والبيت الصغير، بيت الأسرة، والجامعة التى أمضت الكاتبة بين أروقتها ومقاعدها وفصولها ما يقرب من أربعة عقود طالبة ومعيدة وأستاذة.
«أثقل من رضوى» ليست السيرة الأولى للكاتبة، فقبل ثلاثين عامًا أصدرت «الرحلة: أيام طالبة مصرية فى أمريكا»، وهى سيرة ذاتية للسنوات التى قضتها فى دراسة الدكتوراه فى ثمانينيات القرن الماضى، ولا مقارنة بالطبع بين هذه وتلك، فالرحلة مقصورة تقريبًا على تجربة محددة، بينما «أثقل من رضوى» جدارية شاهقة، تحتل الثورة المصرية القسم الأعظم منها، على الرغم من أنه لم يكن مقدرًا للكاتبة أن تشهد انفجارها، حيث كانت فى الولاياتالمتحدة، على موعد مع عدد من العمليات الجراحية المتتالية فى الرأس لمحاصرة ورم خبيث كان قد انتشر بالفعل.
لم تختر الكاتبة أن يتخذ كتابها شكلًا دائريًّا، كما تقرر فى نهاية هذه الفصول من السيرة الذاتية، فهناك ضرورات الواقع وما جرى بالفعل. كل ما فى الأمر أنها كانت ومنذ سنوات، تعانى من ورم مزعج صغير خلف الأذن اليمنى، وعندما يكبر تستأصله بواسطة عمليات جراحية، ثم يعاود الظهور بعد عامين أو ثلاثة.
وأثناء الفحص الدورى، ظهرت شكوك حول طبيعة الورم، وهو ما استدعى ضرورة سفرها إلى الولاياتالمتحدة، وكان من المقرر أن تستغرق الإجازة التى طلبتها من إدارة الجامعة ستة أسابيع فقط من أواخر نوفمبر 2010 وحتى 9 يناير 2011، وسرعان ما اكتشفت عبر الفحوص الأولى أن الورم خبيث، وانتشر وفى مرحلة متقدمة، كما أن مرضها من النوع النادر، حيث يصيب واحدًا فقط من بين كل عشرة آلاف.
وعلى مدى الفصول الممتدة حتى الفصل العاشر قدمت الكاتبة تجربة فريدة، حيث تروى كيف أجرت أربع عمليات جراحية فى الرأس، من بينها جراحتان فى يومين متعاقبين، استغرقت كل منهما بين 9 و10 ساعات لاستئصال أجزاء من عظم الجمجمة وجزء من غشاء المخ، وبعد فشل محاولتين لزرع نسيج فى الرأس، استدعى جراح اسكوتلاندى قام بما يشبه المعجزة، وفى الفترة من 4 إبريل 2011 وحتى 17 مايو تعرضت لخمس وعشرين جلسة إشعاع موزعة على خمسة أسابيع.
وكما يليق بكاتبة بحجم وتجربة رضوى عاشور، فإن تناولها تجربة المرض لم يكن معناه الاستغراق فى آلام ومخاوف لا يمكن الاستهانة بها فى حقيقة الأمر، ولم يكن معناه أيضا ذرف الدموع والإسراف فى الأحلام والكوابيس. كان معناه تأمل التجربة بثبات وتأن، دون استبعاد المخاوف المشروعة وليس الرعب، فاللعب فى الرأس يحمل كل الاحتمالات التى لم يدخر الأطباء والجراحون وسعًا فى إعلام عاشور بتفاصيلها.
لغة عاشور حاسمة وواضحة، لكنها ليست جهمة أو مكتئبة، والإيقاع يتسم بالهدوء ربما للإفلات من تهديد الاحتمالات المطروحة، والسرد دافئ لكنه يحتمى من المأساة بابتعاده عن الغنائية والعاطفية، لأن ما يجرى من أحداث وتفاصيل وتحاليل وأشعات وتقارير أطباء لا يترك مجالًا لتأويلات المجاز واللغة المثقلة، فعلى سبيل المثال تصف ما قام به أحد الجراحين على النحو التالى: «قام الدكتور ستيفن دافيسون بنقل عضلة من الظهر، العضلة المعروفة باللاتيسموس دورساى إلى الرأس، وحوّل معها مجرى الشريان الذى يغذيها، بعد أن أمّن الرأس بعظم نشره من الضلع السابع، جسّر به الفراغ المتخلف من العظم المستأصل فى جراحة يوم الأربعاء».
اخترت السطور السابقة لأدلل على المدى الذى بلغته الكاتبة فى الوضوح الناصع واللغة الحاسمة لتوصيل رسالة محددة، أما بعد عودتها إلى مصر بعد الثورة بأربعة أشهر، فإن الإيقاع تتزايد سرعته بعد أن تم فك أسر الكاتبة، واللغة تتحرر وتدب فيها الحياة، ولأن مسكنها لا يفصله عن ميدان التحرير إلا دقائق قليلة، انخرطت واستغرقت تمامًا فيما كان يعصف ببلادنا. كل ما تفعله هو أن تدهن الجزء المجروح من الرأس بمرهم وتعتمر قبعة كبيرة زيادة فى الحرص وتحمل علمًا تفوق ساريته طولها وتتوجه إلى الميدان.
صبية الألتراس الصغار، وصعود أحمد الشحات فوق أعلى البناية التى تحتلها السفارة الإسرائيلية، وبناء الجدران العازلة وتغطيتها على الفور برسوم الجرافيتى، مذابح أحمد محمود 1و2 و3، مجزرة ماسبيرو ومشرحة زينهم، هجوم قوات الأمن على المستشفيات الميدانية والاعتداء على الأطباء والمرضى على السواء، طارق معوض ومايكل كرارة حاملى العلم فى الصفوف الأولى، مالك عدلى الذى فقد إحدى عينيه على يد قناص ومدوناته عما جرى فى مشرحة زينهم.
فعلى سبيل المثال فقط، كان مالك عدلى قد عرف من خلال تجربته السابقة مع شهداء ماسبيرو أن الفارق بين الجرح القطعى وإصابة الرصاص، هو مرور الإصبع فى الجرح، ولما رفض وكيل النيابة أن يضع إصبعه فى جراح كل جثمان، اضطر مالك للقيام بهذه المهمة، حتى يضمن كتابة التقارير بشكل سليم.
تشكل هذه الفصول بإيقاعها السريع اللاهث واحدة من جداريات الثورة الشاهقة، وإذا كان كثير من الكتاب والنقاد يرون ضرورة الابتعاد عن الأحداث الكبرى وقت وقوعها، وضرورة الابتعاد الزمنى والنفسى عنها لتأملها والنجاة من الانخراط العاطفى فيها، إذا كان ذلك كذلك، فإن مقاطع سيرة عاشور حول الثورة خَلتَ من التورط العاطفى الساذج، والهتاف عالى الصوت، وكانت صادقة على نحو موجع من فرط ما أوردته من حقائق تتجاوز المجاز ذاته.
وأخيرًا.. عنوان هذه المقاطع من السيرة الذاتية مستمد من مَثَل عربى قديم دلالة على الرسوخ وهو «أثقل من رضوى» لأن جبل رضوى يتشكل من سلسلة من الجبال الممتدة إلى الشرق من ينبع، بها جداول ماء وشعاب وأودية ووعول وغزلان، بل إن بعض فرق الشيعة تعتقد أن الإمام الغائب محمد ابن الحنفية مقيم فى جبال رضوى حتى تحين الساعة، وهذه المقاطع هى بالفعل سلسلة من الجبال وجداول المياه، سواء فى رحلة إلحاق الهزيمة بالورم عبر منازلته، أو إلحاق الهزيمة بالنظام القديم ووارثيه عبر تضحيات المصريين اللا محدودة والمستمرة.