"الكتابة... فعلٌ ينفي الآخرين ليخاطبهم ويصيغ علاقته بهم، ويشكِّل ما يشكِّل بلغتهم، ينفيهم ليكتب حكايتهم. يُقصيهم ليراهم أكثر. يبتعد ليقترب، ويعزلك ليتيح لك تبديد وجودك المُفْرَد وإذابته في وجودهم ومكانهم وزمانهم." هكذا تسطر رضوى عاشور الحكاية، وهكذا تسجل بحكايتها لمحات من التاريخ كقارئة أكثر منها كاتبة. هي قارئة ليس فقط للتاريخ وأحداثه وإنما لكل ما ومن يساهم في الحدث، قارئة للجغرافيا.. جغرافيا المكان والنفس الإنسانية.. حدودها الظاهرة والخفية، وما يحكمها وما يثيرها حتى تتجاوز الواقع المرسوم لها.. تقرأ التاريخ وشخصياته. تفهم من يشد منهم الواقع إلى الخلف؛ إلى التاريخ المدون في الكتب من وجهة نظر المنتصر، ومن قد يدفعه إلى الأمام.. إلى التاريخ كما يجب أن يكتب، فتكون كل شخصية معادلا موضوعيا لجيل بأكمله في عالمها أو العوالم الأخرى المجاورة. تقدم من خلال سرد حكايات الأفراد وتفصيلات حياتهم مئات التفصيلات التي تؤرخ بدورها تاريخ وطن بأكمله "كأن من ذهبوا أورثوها حكايتهم لتعمر الأرض باسمهم وباسم حكايتهم أو كأنها تسعى في الدنيا وهم نصب عينيها ليرضوا عنها" كما تقول في رواية "الطنطورية". هذا بالضبط ما تفعله رضوى عاشور في كتابها الجديد "أثقل من رضوي" الذي يعرض مقاطع من سيرة ذاتية ولمحات من تاريخ أمة تناضل حتى الآن لمقاومة كل أنواع الاحتلال، كما تناضل الرواية نفسها لمقاومة احتلال المرض وفساد السلطة. تحكي أولاً كيف أطلق عليها جدها الدكتور عبد الوهاب عزام اسم رضوى.. الجبل الواقع "بالقرب من المدينة المُنوَّرة، تضرب به العرب المثل في الرسوخ فتقول "أثقلُ من رضوى"، لأن الجبل في واقع الأمر، سلسلة من الجبال الممتدة إلى الشرق من يَنْبُع، بها جداول ماء وشعاب وأودية، ووعول وغزلان، تُحّلِّق في أرجائها النسور والصقور والقَطَا والحمام. وتقول بعض فرق الشيعة إن الإمام الغائب محمد بن الحَنَفِيَّة مقيمٌ في جبال رضوى حتى تحين الساعة التي يظهر فيها فيملأ الأرض عدلاً بعد أن عمّ فيها الظلم والزور. يعود العنوان بين الحين والآخر ليلح على الحكاية. إيحاءاته ملهمة: "أثقل من رضوى" ضربا للمثل في الرسوخ، والسيرة التي تُعرض تتناول في أجزائها سيرة وطن من خلال حياة أحد أفراده، والتي ترتبط بحياة آخرين تأتي على ذكرهم وترتبط حياتها بهم تماما كسلسلة الجبال التي تحمل اسم رضوى. وتلك السلسلة التي تحوي الوعول والحمام والماء... إلخ تمثل حياة كاملة بحلوها ومرها لابد أن تصل في نهايتها إلى الحق والعدل كما ينتظر من الإمام الغائب. والرحلة كلها أثقل حملاً من هذا الجبل وأكثر رسوخاً من "رضوى" الكاتبة التي تحكي حكايتها لتؤرخ لفترات في تاريخ يتجاوز تاريخها الشخصي. حمل مصر أثقل من حمل الراوية.. مصر التي قفزت إلى ذهني حين ذكرت الراوية العملية الجراحية وبقاء المخ مكشوفاً بلا غطاء يحميه ويؤمنه.. تذكرت مصر التي تحتاج أيضا إلى "معجزة من نوع ما، تمزج الجراحة بالخيال، وتجمع بين حرفة الجرّاح وجرأة المخترع وإبداع النحات". شدتني حتى أني قاومت النوم لأكمل ما تيسر لي مما وراء الكلمات وكنت أغرق في أحداثها وأنا أكاد أسمع صوتها وأراها تحكيها ولم يكن ينتزعني من متعة الحديث المباشر دون الإحساس بأي حاجز ورقي سوى تنبيهها لي بعبارات مثل "يا أيها القاريء العزيز" أو "طالت الفقرة الاستطرادية" فأتجاوزها وأعود سريعا للحكاية مرة أخرى وأندمج معها. ابتسم وأنا أقرا عن التحاليل التي تطايرت من سطح السيارة ثم تتطور الابتسامة لضحك من وصف السيدة التي تتكعبل في نفسها ولا يهمها سوى الوقوف سريعا والتأكد أن أحداً لم ير حوادث الطيران المضحكة التي تبتدعها دون سبب واضح! أضحك وأعود بعدها لمزيج عجيب من الحزن والفخر والجمال حين تحكي عن مقاومة المرض بالسخرية والتنزه والرد على التليفونات وتغيير دفة الحديث بالحكي عن النباتات واللوحات، ألتفت لجمال الروح التي لا تترك الألم يتحكم بها، والنفس التي تصر على الاستمتاع بالمعرفة فتقهر المرض بدلاً من أن يقهرها، هي المناضلة التي سخرت من الاحتلال حتى أحرجته كما يقول مريد البرغوثي في "ولدت هناك ولدت هنا" وهي الإنسانة التي أتقنت الحياة حتى وقف الموت احتراماً، أما الفخر كل الفخر فلأني أعرفها. تغضب رضوى عاشور لأن المرض منعها من أن تكون على أرض مصر في الخامس والعشرين من يناير 2011 دون أن تدرك انها وآخرين قادوا الثورة ومازالوا يقودونها حتى وإن لم يتواجدوا في بعض الأوقات على أرض الواقع، هم بدأوها وعلا صوتهم حين سكت الجميع، وحركوا الشباب. أذكر مرة أني طلبت من د. عبد الوهاب المسيري ألا يذهب لمظاهرة هدده رجال مبارك قبلها وهو مريض فقال لي: "لما الشباب يشوفوني وانا راجل عجوز ومريض أكيد حيتحركوا، دول جواهم طاقات كامنة هما نفسهم مايعرفوهاش وهم اللي حيساعدوا على التغيير السلمي". أبداً لم تكن وأبدا ليسوا راحلين. بعض الأجزاء تطمئن وتخض في الوقت نفسه..عن السكينة والاطمئنان الملازمين لسيرة الأم "مية" أتحدث.. عن الاتصال الذي طال انتظاره معها وربما تحول إلى تواصل من نوع آخر، وكأنما تحول الرثاء الذي لم يظهر حينها إلى احتفاء بشكل آخر فتطل ذكرى الأم في بضع كلمات بين الحين والآخر رقيقة كنسمة هواء تترك أثراً مريحا وتمضي. الأم التي تطل علينا بهدوء عجيب وأكاد أراها تستمع إلى الجكاية وهي تتطلع إلى طارق الإبن والأخ الذي فارق جسده عالمنا ومازالت الراوية تراه يحتضن حفيده على كرسي الصالون. مية التي أكاد أسمع صوت نحيبها عندما نظرت الراوية في المرآة بعد الجراحة هي نفسها الأم التي تجلس هادئة في بيتها آخر الرواية تستمع للختام الذي يشكل بدوره بداية جديدة. هم حاضرون وباقون وهو ما يؤكده آخر الفصل حين ذكرت مينا دانييل وبقية الشهداء الذين فارقوا زماننا ليتحولوا إلى شهود عليه كما في فصل "ولا تحسبن" وهو فصل ملحمي ومجهد للروح وبه عبارات موجعة مثل "من علم أبناء الفلاحين الصيد- من حول أبناء الفلاحين إلى قتلة؟" عمل جميل يجمع بين المعلومات التي تعرض بطريقة شيقة (مثل تلك عن قصر الزعفران ومدفن والد الخديوي والاتفاقيات والثورة العربية واللوحات مثل لوحة الجيرنيكا ووصفها المتميز ومعناها) وفيه مشاعر لا نهائية وصدق وإحساس يجذبك لاستكماله وعدم تركه، وفيه كسر للحزن بالفكاهة وكسر للسرد بالحوار مع القاريء. تقرأ فتشعر بالغضب أحياناً أو يغالبك شعور بالحزن وخصوصا في وصف المرض ولكن المبهر أن كل حزن تخالطه ابتسامة سرعان ما تتحول لضحك من شر البلية أو سخرية مثل تلك الفقرة عن الأستاذ الجامعي مدكوك العضلات الذي خرج عن سياق أحد الاجتماعات وانخرط في كلام عنصري ضد شعب العراق فتمنت الأستاذة الجامعية الأديبة لو اشتبكت معه بالأيدي وغير الأيدي، إلى جانب الحوار المتخيل مع القاريء الذي يمل ويجادل ويناكف الكاتبة! أعترف إني بكيت مرة من وصفها لتميم حين استبد به الفزع لأنه هو من أقنعها بإجراء الجراحة المعقدة جدا فانتحب في حمام المشفى قائلا لأبيه: طخني! تقاوم رضوى عاشور الظلم والقهر والتاريخ المفروض علينا بالحفاظ على الذاكرة ضد محاولات طمسها فتسجل ما تتمكن من حفظه من تاريخ مصر وثورتها المستمرة ومن تاريخها الشخصي كما تقول في الطنطورية وتطبق قولها فعلا في كل عمل لها "الذاكرة لا تقتل. تؤلم ألماً لا يطاق، ربما. ولكننا إذ نطيقه نتحول من دوامات تسحبنا إلى قاع الغرق إلى بحر نسبح فيه.نقطع المسافات. نحكمه ونملي إرادتنا عليه." تختتم رضوى عاشور الكتاب بالإعلان عن انتمائها القومي والإنساني: "لماذا لا أقول أننا، كل أسرتنا، لا أعني أنا ومُريد وتميم وحدنا، بل تلك العائلة الممتدة من الشغّيلة والثوّار والحالمين الذين يناطحون زمانهم، من حزب العِناد؟ نَمْقُت الهزيمة. لا نقبل بها. فإن قضت علينا، نموت كالشجر واقفين، ننجز أمرين كلاهما جميل: شرفُ المحاولة وخبراتٌ ثمينة، تركةٌ نخلّفها بحرص إلى القادمين. هناك احتمال آخر لتتويج مسعانا بغير الهزيمة، ما دمنا قررنا أننا لن نموت قبل أن نحاول أن نحيا." لا أملك إلا الشكر والشكر الكثير لأني إذ أقرأ أكتشف أني محظوظة لأن الراوية حكت لي عن الكثير مما ورد بالكتاب في مرات متفرقة ولأني عشت معها بعض المواقف الأخرى فأستمتع أكثر بالحكاية وكأني أقرأ كتاب أمي التي لا تجيد التنكر وإنما تغلب عليها صفة الأمل رغما عنها لأنها مؤمنة وقوية ولأني واحدة ممن تشبثوا بتلك الثمار التي رحت أوزعها على غيري مستشهدة بها. ما أجمل الختام الذي يذكرنا بأن كل نهاية ما هي إلا بداية جديدة والذي توزع به ثمرة من سلة الأمل لأنها ولأننا نمقت الهزيمة. حاضر يا دكتورة رضوى، سنحاول أن نحيا قبل أن نموت...