لا يخيب الغرب أبدا سوء ظني فيه عندما يتعلق الأمر بالتعامل مع قضايانا .. أقصد قضايا العالم العربي والإسلامي. فهو إما مغيب عنها أو يتعامل معها بمنطق المصلحة المباشرة وحينما يهتم بها يكون ذلك تعاملا سطحيا يكاد يرقي الي درجة " العبط". وأحيانا بل كثيرا ما أشك في أنه يتعمد التعامل بهذا الشكل إما استسهالا أو لنقص في الادراك والفهم أو الاثنين معا. لا يغرق كثير من المعلقين الغربيين أنفسهم في تفاصيل المشهد العربي والاسلامي مهما كانت حيوية ومهمة. وغالبا من يكون انتقائيا في التفاصيل التي يتعامل معها مكتفيا بالتفاصيل التي تريحه وتريح ضميره أو تظهره بمظهر إنساني يتواءم مع ما يدعي أنها مبادئ يؤمن بها حتي لم كان ذلك على حساب القضية الاصلية.
ولا أجد هنا للتدليل على "سوء ظني" بالغرب أكثر من قضية الفتاة الباكستانية "مالالا يوسف ضيا" التي نجت من محاولة اغتيال علي يد حركة طالبان باكستان. وكان مسلحون ينتمون الي طالبان قد أطلقوا الرصاص العام الماضي علي "مالالا" البالغة الأن من العمر ستة عشر عاما وهي في طريقها الي المدرسة في وادي سوات في مشهد درامي بالغ التأثير .
الكثيرون يعلمون القصة وقرأوا عنها وتابع الملايين علي شاشات التلفزيون في العالم بأسره بقلوب لاهثة عملية نقل "مالالا" من باكستان الي لندن لتلقي العلاج في أكبر المستشفيات البريطانية وكتب عشرات الكتاب والمعلقين عن شجاعة الفتاة التي وقفت في وجه حركة طالبان وكادت أن تدفع حياتها ثمنا لدفاعها عن حق الفتيات والنساء في التعليم وهو الأمر الذي تنكره وتبغضه حركة طالبان الأفغانية. بعد أن تلقت "مالالا" الكثير من المديح والاهتمام الذي هي أهل له وبعد أن تماثلت للشفاء في مستشفي الملكة اليزالبث في مقاطعة برمنجهام منحت هي وأسرتها بيتا وملجأ في بريطانيا وفرصة لتكمل تعليمها. يبدو كل هذا عاديا ومستحقا لفتاة أثبتت شجاعة نادرة في قضية حيوية هي قضية تعليم البنات. لكن الامر لم يتوقف عند هذا الحد فاصبحت "مالالا" ضيفة علي عشرات البرامج والتوك شو وخطيبة أمام الاممالمتحدة في عيد ميلادها ومتحدثة في جمع من ألف شخص تتقدمهم الملكة اليزابيث في جامعة أدنبرة حيث تم منحها درجة الماجيستر الفخرية ومنحت جائزة من معهد كارنيجي الامريكي ووضعتها مجلة تايم الامريكية في قائمة أكثر مائة شخصية مؤثرة في العالم واستقبلها الرئيس الامريكي باراك أوباما وزوجته ميشيل في البيت الابيض كما تم ترشيحها لنيل جائزة نوبل للسلام. وأخيرا ظهر في المكتبات البريطانية نسخة من سيرتها الذاتية.. نعم سيرة ذاتية تحمل أسم " أنا مالالا يوسف ضيا" واعذروني هنا اتوقف قليلا كي اتسأل كيف يمكن أن يكون لفتاة في السادسة عشرة من عمرها سيرة ذاتية ؟ ما هو الانجاز الذي تمكنت من تحقيقه خلال ست عشرة سنة قضت نصفهم رضيعة وفي الحضانة وفي سنوات المدرسة الاولي ؟ غضب الكثيرون من عدم منح جائزة نوبل للسلام واعتبروا أن الجائزة مسيسة لأنها لم تمنح لمالالا .. وهي كذلك بالفعل. لكن ليس لانها لم تمنح لمالالا ولكن لانها منحت لمنظمة الاسلحة الكيميائية قبل أن تقوم بأي انجاز اساسا. افهم أن تمنح مثل هذه الجوائز لشخص مثل نيسلون مانديلا قضي عمره يدافع عن الحريات في بلده وقد افهم أن يكتب أوباما سيرته الذاتية لانه أول رئيس من أصول أفريقية يرأس الولاياتالمتحدة ولكن ما الذي فعلته مالالا في ستة عشر عاما ليتم ترشيحها لجائزة نوبل للسلام؟ ما هو الانجاز الذي يمكن لمراهقة في سني عمرها أن تحققه؟ أرجوكم توقفوا قليلا قبل أن تتهمونني بأني أقلل من قيمة هذه الفتاة التي تتحلي بشجاعة نادرة. علي العكس أنا أجلها واحترمها واعتقد أنها مثال رائع للفتيات والنساء والدفاع عن حق أصيل هو الحق في التعليم الذي قضيت أنا شخصيا نصف حياتي المهنية في الدفاع عنه. ولكنني أتوقف أمام الغرب الذي يلتقط نماذج معينة لوضعها في مصاف النجوم ويغرق في الحفاوة بها دون النظر أو الاكتراث بالصورة الكاملة.
فلماذا لم يتحدث أحد عن رفيقات مالالا اللواتي يتعرضن كل يوم للقمع علي يد المتشددين في حركة طالبان وغيرها؟ لماذا لا تنقذهن طائرة مجهزة للعلاج من رصاصات غادرة تودي بحياتهن وتنقلهن للعيش في بريطانيا؟ لماذا لا يقفن أمام العالم ليتحدثن عن شجاعتهن في مواجهة الأرهاب؟
لماذا لا يتحدث الغرب عن هؤلاء الفتيات اللاواتي بلا هوية ولا اسم ؟ لماذا لا يتحدث عن عشرات الأبرياء الذين يقتلون بدون ذنب كل يوم في طلعات الطائرات الامريكية بدون طيار ؟ لماذا لا يري الغرب وجوه هؤلاء ؟ وما الذي فعله لمساعدة الحكومة الباكستانية لاستئصال شأفة الأرهاب بالتنمية البشرية والاستثمار الايجابي في الاقتصاد وليس في صفقات السلاح.
نموذج "مالالا" يذكرني بنموذج الشابة اليمنية "توكل كرمان" التي اختيرت كي تنال جائزة نوبل للسلام العام الماضي. "توكل كرمان" خرجت في مظاهرات مثل عشرات بل مئات اليمنيات مجهولات الهوية وراء نقاب يطالبن بالعدالة والحرية. واثبتت بالفعل شجاعة نادرة في الوقوف أمام الظلم والديكتاتورية والفساد وضربت مثالا رائعا للفتيات اليمنيات اللاواتي يتحلين بشجاعة ورباطة جأش وجمال الروح والاعتزاز بالنفس حتي وإن كن يرتدين نقاب أوحجاب.
ولا أخفيكم سرا أنني استبشرت خيرا بأن العالم التفت أخيرا لبلد اسمه اليمن تمزقه الصراعات القبلية والحروب الخفية للجماعات المسلحة والصراع بين السنة والشيعة في الجنوب ناهيك عن المشكلات المجتمعية الجمة التي يعاني منها هذا البلد الذي يرزح تحت وطأة الفقر والقهر والمرض وغياب الحريات. كنت انتظر من "توكل كرمان" التي التقيتها منذ سنوات في اليمن وهي صحفية شابة ثائرة- أن تشمر عن ساعديها وتمد يديها التي اكتسبت قوة وصلابة باختيارها لنيل جائزة عالمية مرموقة فاصبحت مسموعة الكلمة في المحافل الدولية. كنت انتظر منها أن تتحدث عن معاناة المرأة اليمنية التي تحرم من التعليم في سن صغيرة وتجبر علي الزواج غير متكافئ فيما يعرف بظاهرة عرائس الموت. كنت اتمني أن تخوض حربا لتغير القوانين اليمنية لرفع سن الزواج. كنت انتظر منها أن تتحدث عن معدلات الوفيات للمرأة عند الولادة وهي الاعلي علي مستوي العالم بأسره. كنت انتظر أن تخوض توكل كرمان معركة "القات" الذي ينهب قوت الأسرة اليمنية. وقضايا كثيرة لابد وأنها تعرفها حق المعرفة وهي التي كانت تعمل في مهنة الصحافة ولابد أنها عايشت ذلك سنوات عمرها اكثر بكثير من صحفية مثلي زارت البلد مرتين فحسب.
لكنها عوضا عن ذلك خاضت وتخوض كل يوم "حربا تويترية" دفاعا عن الاخوان وعن الرئيس المصري المعزول محمد مرسي وتهاجم عشية وضحاها الجيش المصري والفريق عبد الفتاح السيسي. والحقيقة أنني لا انكر علي أحد أن يتحدث في شؤون أي دولة أخري بما يشاء وأن يناصر ويساند أي طرف ويوجه انتقادات لمن يرغب ولكنني في الوقت نفسه لا أفهم كيف يتجاهل نفس الشخص قضايا بلده ومعاناة أبناء بلده.
كنت اتمني بدلا من أن يجعل الغرب من "مالالا" رمزا أن يستثمر في قطاع التعليم للفتيات كنت اتمني من "مالالا" أن تعود الي وادي سوات كشهيدة حية تمشي علي قدمين وتطالب بلدها وحكومتها بافتتاح مدرسة بل سلسلة مدارس باسمها. كنت اتمني أن تشن "توكل كرمان" حملة لتغير القوانين المجحفة بحق المرأة اليمنية وتحاول أن ترفع الظلم عن بنات جلدتها بدلا من الدخول في معترك استقطاب سياسي في بلد أخر لن ينتهي في المنظور القريب.
أنا لا احب أن العب دور "عواجيز الفرح" الذي يحلو لهن أفساد أي بهجة. وسعادتي بوجود نماذج من قبيل مالالا وتوكل على الساحة الدولية كبيرة ولكن السؤال ماذا بعد ؟ ماذا بعد اغلفة المجلات العالمية وكتب السيرة الذاتية؟ ماذا بعد جائزة نوبل ودرجة الماجيستير الفخرية؟ هل سيتذكر العالم الغربي أن هناك نساء سوي توكل وفتيات غير مالالا ؟ أم إنه كتب علي هؤلاء النسوة أن يعانين في صمت ويقضين نحبهن في الظلام ويدفن في مقابر بلا شاهد ؟