تلك هي مشكلة الحقيقة الحقيقية.. أنها مهما كانت حقيقة ومهما كنت تعتقد في مدي حقيقيتها.. إلا أنها في حقيقة الأمر ليست حقيقة.. لا توجد حقائق في ذلك العالم، تلك هي الحقيقة الوحيدة التي ينبغي علينا أن نستوعبها، فقط يوجد ما نعتقد أنه حقيقة.. ويوجد ما يلزمنا أن نقنع أنفسنا بأنه حقيقي لكي نستطيع التعامل مع ما أخبرونا بأنها هي الحقائق في ذلك العالم.. منذ 1500 سنة فقط كنا نعتقد أن الحقيقة هي أن الأرض رقعة ممتدة ومسطحة.. ومنذ 500 سنة فقط كنا نعتقد أن الحقيقة هي أن الأرض مركز العالم وأن الشموس وباقي الكواكب هي اللي بتلف حواليها.. الآن نعتقد أن الحقيقة هي أن العالم منقسم إلي مجرات وأن الأرض مجرد كوكب من ضمن عدة كواكب تدور حول الشمس التي تنتمي بدورها إلي مجرة من ضمن تلك المجرات التي يمتلئ بها الكون.. وغداً.. لا يعلم أحد الحقيقة التي سوف نعتقد أنها هي الحقيقة.. نحن فقط نعتقد.. لا نملك سوي أن نعتقد.. أما أن نجزم.. فهذا ما لا ينبغي علينا أن نفعله.. حيث أننا نحن أنفسنا قد نكتشف في نهاية الأمر أننا لسنا حقيقة.. وإنما محض اعتقاد! لهذا.. اسمحولي أن أحاول محاولة نملة تؤمن أن بوسعها الحصول علي حبة السكر اللي واقعة علي الرخامة اللي في المطبخ والعودة بها إلي جحرها آمنة بدون أن تنهي حياتها نقطة مية مغلية قد تطرطش خارج كوب شاي يصبه شخص واقف في المطبخ.. لا تدركه النملة لكبر حجمه.. ولا يدرك هو النملة لصغر حجمها.. اسمحولي أن أحاول محاولة مثل تلك.. واسأل نفسي سؤالاً مثل هذا.. إيه الdead line بتاع الحياة؟! من المؤكد أنكم مش مستنيني أنا عشان آجي أقولكم إن كل بني آدم أثناء آدائه لعمل ما يحتاج إلي معرفة الdead line الخاص بإنهاء هذا العمل. يحتاج إلي الارتكاز علي معرفة زمن معين ينبغي عليه أن ينجز ما يود إنجازه فيه قبل أن يجيء هذا الزمن.. قد ينجز البني آدم منا العمل قبل الdead line بفترة كبيرة.. وقد ينجزه قبل الdead line بالظبط.. المهم أن هناك وقتاً محدداً يعلمه البني آدم منا ينبغي عليه فيه إنهاء عمل ما.. الطالب يعلم أن هناك dead line لإنهاء مذاكرته.. وهو وقت الامتحان.. والنجار يعلم أن هناك dead line لإنهاء الكنبة اللي في إيده، وهو الموعد الذي اتفق عليه مع الزبون.. والصحفي يعلم أن هناك dead line لإنهاء الكتابة اللي في إيده.. وهو وقت تقفيل الصفحات وشد الأفلام والذهاب إلي المطبعة.. والمقاول يعلم أن هناك dead line لإنهاء العمارة اللي في إيده.. وهو الموعد الذي اتفق عليه مع الشركة التي تملك العمارة.. (هذا في حالة ما إذا كان للسيد أحمد عز رأي آخر فيما يخص أسعار الحديد.. عندها قد يتأخر ال dead line شوية) الدكتور يعلم أن هناك dead line ينبغي عليه فيه قفل بطن العيان اللي نايم قدامه وإنهاء العملية الجراحية.. كل بني آدم بحاجة إلي معرفة وقت محدد ينبغي عليه فيه أن يكون قد أتم العمل. الشيء الوحيد الذي نفعله ونمارسه في كل لحظة نعيشها وفي كل فيمتو ثانية نحياها ولكننا مش عارفين ال dead line بتاعه.. هو فعل الحياه نفسه.. ولكي تتخيلوا الموضوع أكثر.. تخيلوا معي طالباً منهمكاً في المذاكرة طوال الوقت، وهو لا يعلم أدني فكرة عن المعدل الذي ينبغي عليه أن يذاكر تبعاً له.. هل يقرأ الكتاب كله في البداية بسرعة.. حتي يستوعب الفكرة العامة الكاملة علي أساس أن ال dead line قد يكون بعد ساعات.. أم يقسم فصول الكتاب علي فترات زمنية، ويستوعب كل فصل جيداً قبل الانتقال إلي الفصل اللي بعده.. علي أساس أن الdead line قد يكون بعد شهور.. أم يأفور أكتر في إعطاء المادة حقها من الفهم والاستيعاب، ويحاول تطبيق النظريات التي قرأها في المادة علي حياته بشكل عملي.. وهذا طبعاً سوف يكون علي أساس أن ال dead line قد يكون بعد سنوات.. ماذا يفعل الطالب في موقف معقد مثل هذا.. وفي حسبة صعبة مثل تلك.. وفي ورطة سودا زي الورطة اللي هو واقع فيها.. والتي تتمثل في إنه بيذاكر آه.. بس مش عارف إيه الdead line بتاع المذاكرة إللي بيذاكرها! «إذا عُرفَ السبب، بَطُلَ العجب».. الغريب والعجيب في هذا المثل أنه في تلك الحالة التي نحن بصدد التحدث عنها سوف ينبغي علينا أن نشقلبه رأساً علي عقب.. ليصبح «إذا عُرِف السبب.. ازداد العجب».. ففي تلك الأمور التي تخص تجربة الحياة المقدسة.. كلما انجلي في عقل البني آدم منا كشفاً لسر من الأسرار.. وكلما نوَّرت في روح البني آدم منا حتة من الحتت اللي كانت مضلمة.. كلما ازداد عجبنا أكثر.. وهل هناك عجباً أكثر من تلك الحقيقة الحياتية الكوميدية العجائبية المقدسة.. أنك كلما عرفت أكثر.. كلما شعرت بجهلك وعدم معرفتك أكثر وأكثر! لذا.. دعونا نعود للنملة التي لاتزال تشق طريقها باتجاه حبة السكر الواقعة علي رخامة المطبخ.. ولسؤالنا الرئيسي «إيه الdead line بتاع الحياة»؟! في إحدي حلقات برنامج (The Doctor.s) علي MBC4 كانت الفقرة تناقش إجابة هذا السؤال.. «لماذا ينجز بعضنا العمل بشكل أفضل إذا كان واقعاً تحت ضغط معين له علاقة باقتراب الdead line الذي ينبغي عليه إنهاء عمله فيه؟». وتلك كانت هي إجابة هذا السؤال.. أن الجسم عندما يتوتر التوتر المصاحب لاقتراب الdead line الخاص بإنهاء عمل ما يفرز مادة الأدرينالين التي تسرع بدورها من ضربات القلب.. وتسمح تلك المادة للدماغ بالولوج داخل منطقة زمنية أبطأ من الزمن الفعلي والحقيقي الذي تحياه.. وهذا هو السبب في شعورك أثناء وقت الخطر أن الوقت يمر بشكل أبطأ مما هو عليه (ولكم في أي وقت محتسب بدل ضايع علي منتخبنا القومي في أي مباراة دولية خير مثال علي ما أقول).. بينما تمر أوقات شعورك بالسعادة بشكل سريع وخاطف.. (ولكم في ال29 عاماً الماضية خير مثال علي ما أقول).. هذا الشعور ببطء الزمن يفسح المجال أمام خلايا التركيز في المخ لتعمل بقوة أكبر.. وهذا هو شعور طالب في ليلة الامتحان لم يستعد جيداً علي مدار السنة الدراسية.. إلا أن ذلك الطالب في تلك الليلة القصيرة والمكثفة يمكنه إنجاز ما أنجزه طالب آخر في أسبوع مثلاً.. حيث إن شعوره باقتراب وقت الامتحان قد يجعله أكثر توتراً أي نعم.. ولكنه أيضاً سوف يجعله أكثر تركيزاً. وقاموا لإثبات ذلك بتجربة عملية علي فتاتين جلست.. كل فتاة في حجرة وحدها.. فتاة منهم جاءها صوت دافئ ومحب عبر سماعات في الحجرة يخبرها بأنها أمامها الوقت الكافي لحل تلك اللعبة الحسابية.. استمري في طرح رقم 7 من رقم 100 وانطقيهم تباعاً.. بمعني (100 93 86 وهكذا) وأخبرها الصوت المنبعث من السماعة بضرورة الاسترخاء الكامل.. واتبعوا ذلك بتشغيل موسيقي كلاسيك هادئة لتساعدها علي الاسترخاء والإجابة بدون تحديد وقت محدد لها لتجيب خلاله.. الفتاة الأخري.. دخلت عليها حجرتها سيدة متجهمة وصارمة.. جلست أمامها ووضعت وجهها في وجهها.. وأخبرتها بجفاء أن أمامها 60 ثانية فقط، لحل نفس اللعبة الحسابية، وأخبرتها أيضاً أن التجربة مسجلة عبر كاميرا في الغرفة، وأنها سوف تذاع في البرنامج أمام الشعب الأمريكي بأسره.. وبدأ العداد يعد.. وبدأت الفتاتان التجربة العملية.. الفتاة المتوترة الواقعة تحت ضغط توتير السيدة المتجهمة لها بالإضافة إلي ضغط الdead line الذي يقترب كانت في قمة تركيزها وانهمرت الأرقام منها تباعاً 100 93 86 79، حتي انتهت في 45 ثانية فقط.. أي قبل 15 ثانية من الdead line. الفتاة الأخري المسترخية والمستريحة نفسياً، والتي لم يخبرها أحد بأي dead line من أي نوع.. توترت أكثر من الفتاة الأخري.. ولم تستطع بالرغم من توفير كل عناصر الراحة لها نطق الأرقام الصحيحة.. إلي هنا انتهت فقرة البرنامج.. يمكننا الآن أن نعاود القفز إلي رخامة المطبخ، حيث نملتنا المثابرة قد حصلت بالفعل علي حبة السكر.. وبذلت مجهوداً لكي تستطيع تحميلها علي ظهرها.. واستدارت في طريق عودتها.. بينما الشخص الممسك بالبراد في يده بدأ في صب الشاي في الكوب الذي تعبر بجواره النملة.. هل تطرطش نقطة مية مغلية علي النملة لتنهي حياتها في لحظة.. أم تستطيع العودة بحبة السكر آمنة سالمة غانمة إلي جحرها الدافئ في الحائط؟! هذا ما لا يمكننا التكهن به.. حيث أنه لا النملة تدرك ما يفعله الشخص الذي يصب الشاي.. ولا الشخص الذي يصب الشاي يري النملة من أساسه.. لهذا.. جميع الاحتمالات واردة! يا لصعوبة تجربة الحياة.. التي يشبه البني آدم منا فيها البنت اللي ما تعرفش الdead line بتاع إجابة السؤال.. ولكنه.. لكي يستطيع إنجاز أي شيء في تلك الحياة.. ينبغي عليه أن يقنع نفسه طوال الوقت أنه أشبه بالفتاة الأخري.. التي تعرف أن الdead line بتاعها.. بعد 60 ثانية فقط!